أعداء الرياضيات
إبراهيم العلوش
كنا نلتقي في الباحة , نرى بعضنا من بعيد , نتفاهم بالنظرات, لسنا في حاجة إلى الشرح والتأويل حول وجودنا وحيدين في ساحة المدرسة التي تركها الطلاب بعد قرع جرس الدخول, نخرج من مخابئنا بعد دقائق من حلول الصمت على الباحة , واحد يخرج من خلف شجرة وآخر من خلف المطعم وآخر وآخر... حتى نجتمع ونتوزع في مجموعاتنا نحن أعداء الرياضيات والهاربين من وطأة مثلثاتها وأعدادها المتداخلة ..
كانت مجموعتنا تجتمع في مكان ضائع خلف أشجار المدرسة لنمارس هوايتنا في كتابة انواع الخطوط والتفنن في أدائها , كنا نعتبر أنفسنا متمردين على الرياضيات ولسنا كسالى كبقية زملائنا الهاربين ، إذ لدينا هدف نملأ وقتنا به ، أما الآخرون فيقفزون خلف جدران المدرسة صوب الشوارع وضفة الفرات, إلى أن صرنا نتهمهم بملاحقة الكلاب والحمير الداشرة ،وعزز اتهاماتنا لهم مشاهدة صفوان وهو يجر حماراً صغيراً بحبل ٍ معدني جرح رقبته وزدنا عليه الكلام حتى اتهمناه بأنه يبحث عن مكان لمضاجعة "الكر"
- على الأقل يا حمار لو أنك تجر كرة أو حتى حمارة بدلاً من هذا الكر الأجرب!!
* * *
بقينا طوال الشتاء نجتمع غير آبهين بالبرد ولم تخطر ببالنا لذة الصف الدافئ الممتلئ بصمت الطلاب وأرقام أستاذ الرياضيات المتداخلة وصارت كلمة السر للتفاهم بيننا:
- حمار؟
- بالرياضيات!
سقط البعض منا مرضى من أثر البرد ، وتراجع بعض المترددين وعادوا إلى دفء الصف , أما نحن الثلاثة فقد التقطَنا مسؤول الوحدة الطلابية!
أمسكَ بنا في زاوية المدرسة نخطط أبياتاً من الشعر ونتحدى بعضنا بخط الرقعة , وأينا يؤديه بشكل أجمل رغم إنه خط مألوف أو ربما شديد الألفة، فاجأنا المسؤول بالقبض علينا نحن الثلاثة في لحظة واحدة, لم يتمكن أيٌ منا من الفرار إلى زاوية سور المدرسة المعدة لسرعة القفز إلى الخارج !
أمسك صفحة الكرتون الواسعة وصار يقرأ أبياتاً غزلية حفظناها من قصائد الشعر التي ندرسها :
- أين صور (السكس) التي لديكم؟!!
- والله ما عندنا!!
- كذابين.. أخرجوها بسرعة !!
وبعد أن فتشنا جيداً تيقن أنه ليس لدينا أياً منها وبدأ محاضرة طويلة حول أهمية المستقبل وحضور الدروس والوطن الذي ينتظر إنجازاتكم...
- يا كلاب.... يا خونة ... ماذا تفعلون هنا بهذه الكرتونة؟! ماذا تخبصون ؟!
- نتدرب على الخط أستاذ !
- تدرب بعد الظهر في بيت أهلك يا سافل !
أمسك الكرتونة وتأملها قليلاً وكأنه يأخذ استراحة من المحاضرة التي كلف نفسه بها .
- والله خطكم ممتاز !
أشرقت ابتسامة موحدة على وجوهنا ..
- تعالوا معي ... تعالوا
صرنا نترجاه ألا يأخذنا إلى المدير أو الموجه الذي سيُبلغ أهلنا ....
- الحقني ولاك!!
وزع علينا رزمة من الكرتون الكبير وأمرنا بكتابة أولى الشعارات التي بدأنا بها مسيرتنا معه!!!
تطورت العلاقة معه كثيراً إلى حد أنه أعطانا مفتاح غرفته للمجيء إليها في أي وقت أو في موعد أي درس لا يعجبنا !
في ذلك الشتاء غدت مدرستنا قدوة المدارس في نشر الشعارات ولصقها على الجدران وفي الممرات، وتوسع الأمر معنا إلى الشوارع الجانبية حيث نشرنا صور الزعماء مع خطوطنا الجميلة التي تمجدهم وتمجد خطواتهم التي يقودون بها الوطن !!
* * *
عندما ترفـّع مسؤولنا الطلابي بفضل نشاطنا أخذته النشوة والحماس وأمرنا ألا نحضر أي درس ..
- هذه دروس سخيفة لا تورث إلا العقم وأمتنا بحاجة إلى النشاط , سأملأ بخطوطكم الجميلة هذه المدينة كلها وليعرف أعداؤنا أننا رمز للنشاط والنجاح !!
وفعلاً.. صارت أقلامنا الثلاثة توزع حبرها في كل زاوية وشارع وتبشر الناس بالازدهار والسعادة بفضل قياداتنا الحكيمة وما على الجماهير إلا قطف الثمار الموعودة !
وعندما عمت موجة برقيات التأييد بالدم , غمسنا أقلامنا في دماء المتطوعين مسطرين صفحة جديدة في تاريخ فن الخط لم يعرفه الخطاطون الذين سبقونا , إذ اقتصرت أعمالهم على الحبر الأسود في معظمها, ولم تصل إلى السوية التي فاجأتنا في البداية وهي الكتابة بالدم!!
* * *
لا أعرف من أين جاء ذلك الصبي , طردناه أكثر من مرة، لكنه سرعان ما كان يبزغ وسط الغرفة المكتظة بالمتطوعين للتبرع بدمائهم من أجل كتابة برقيات التأييد والمؤازرة للقيادة , بعضهم يبحث عن منصب , وبعضهم له اضبارة قديمة ويأمل بأن تطوى ... وبعضهم لديه معتقل من أقربائه البعيدين يأمل ألا يحاسب كعائلة المعتقل المباشرة ... وبعضهم لديه قريب مفقود يأمل بأن يراه لمرة واحدة , والزمرة الأخيرة هي من الأمهات والأخوات وربما الأخوة الطاعنين بالسن , كلهم يتقربون بدمائهم , يحلمون بريشتنا التي ستكتب بدمهم صكوك الخلاص أو الأمل على الأقل !!
لكن ذلك الصبي لم أتمكن من معرفة قصده , كان يمد ذراعه السمراء النحيلة أمامنا مطالباً بأخذ دمه لكتابة إحدى برقيات التأييد , لم أكن أجرؤ على ضربه , لأن عملي لا يحصنني من الشبهة إذا قدم شكوى ضدي، لكنني تجاهلته ... حتى جاء مع أحد المسؤولين الكبار مثل أضحية يقدمها أحد الميسورين , قدمه لنا ليتبرع بدمه الشيطاني !!!
بعد أسبوع من تلك المناسبة مات الصبي , لا أعرف ما أصابه لكنه مات ، رأيته أمامي ميتاً , تنصل المسؤول الذي جلبه إلينا , لكن الأمر تم طيه بسرعة وكتب محضر وفاة لسبب ما من الأسباب الكثيرة التي يستطيع الأطباء الطامحون ابتكارها لموت صبي نحيل بائس , غير السبب الأكيد الذي تسببت أنا به , قد أكون أخذت منه دماً أكثر مما يحتمل أو أكون قد غمست بجسده إبرة ملوثة بدم متبرع سابق أودت بالصغير ....
أينما أسير صرت أراه قادماً إلي, وجهه الأسمر النحيل لا يفارقني , إذا التفت إلى جدار المدرسة المقابل أو زاوية الشارع التي نصبنا فيها أكبر صورة وكتبت تحتها أجمل خط كتبته في حياتي , تلك الزاوية التي صارت مزار المسؤولين والطامحين في الارتقاء على السلم الإداري بأسرع وقت , كنت أزورها سابقاً لأتمتع بمنظر الخط الذي كتبته ، بقيت أسبوعاً في تلك الزاوية آكل وأشرب وأنام عندها حتى أنجزت تلك الخطوط ... وهاهو منظر الصبي مطبوعاً عليها فلم أعد قادراً على زيارتها .... كل الجدران , كل الصور, كل كتاباتنا صارت مطبوعة بصورة الصبي , لم أعد أراها إلا كإعلانات عن الموت , أو إعلانات عن وباء غامض يجتاح المدينة..
فررتُ إلى القرية لأرتاح قليلاً من صور ذلك الشقي , فانطبعت أمامي على الجدار الطيني , صارت تأكل وتشرب معي , صارت الصورة تقاسمني حياتي...
* * *
تشتت زملائي , عادل صار كاتب عرائض أمام دار الحكومة , وصبري أعتقل مع مسؤولنا الطلابي الذي صار ملازماً له بتهمة التلاعب بأموال المنظمة الطلابية , وتقديمه معلومات كاذبة ضد خصومهم في المنظمة الذين فازوا بقيادتها, ولا أعرف ماذا حل بصفوان وغيره من زملائنا أعداء الرياضيات......
أما أنا فما أزال أحلم بالتخلص من صورة الصبي النحيل الأسمر التي التصقت بحياتي!!
منقول
إبراهيم العلوش
كنا نلتقي في الباحة , نرى بعضنا من بعيد , نتفاهم بالنظرات, لسنا في حاجة إلى الشرح والتأويل حول وجودنا وحيدين في ساحة المدرسة التي تركها الطلاب بعد قرع جرس الدخول, نخرج من مخابئنا بعد دقائق من حلول الصمت على الباحة , واحد يخرج من خلف شجرة وآخر من خلف المطعم وآخر وآخر... حتى نجتمع ونتوزع في مجموعاتنا نحن أعداء الرياضيات والهاربين من وطأة مثلثاتها وأعدادها المتداخلة ..
كانت مجموعتنا تجتمع في مكان ضائع خلف أشجار المدرسة لنمارس هوايتنا في كتابة انواع الخطوط والتفنن في أدائها , كنا نعتبر أنفسنا متمردين على الرياضيات ولسنا كسالى كبقية زملائنا الهاربين ، إذ لدينا هدف نملأ وقتنا به ، أما الآخرون فيقفزون خلف جدران المدرسة صوب الشوارع وضفة الفرات, إلى أن صرنا نتهمهم بملاحقة الكلاب والحمير الداشرة ،وعزز اتهاماتنا لهم مشاهدة صفوان وهو يجر حماراً صغيراً بحبل ٍ معدني جرح رقبته وزدنا عليه الكلام حتى اتهمناه بأنه يبحث عن مكان لمضاجعة "الكر"
- على الأقل يا حمار لو أنك تجر كرة أو حتى حمارة بدلاً من هذا الكر الأجرب!!
* * *
بقينا طوال الشتاء نجتمع غير آبهين بالبرد ولم تخطر ببالنا لذة الصف الدافئ الممتلئ بصمت الطلاب وأرقام أستاذ الرياضيات المتداخلة وصارت كلمة السر للتفاهم بيننا:
- حمار؟
- بالرياضيات!
سقط البعض منا مرضى من أثر البرد ، وتراجع بعض المترددين وعادوا إلى دفء الصف , أما نحن الثلاثة فقد التقطَنا مسؤول الوحدة الطلابية!
أمسكَ بنا في زاوية المدرسة نخطط أبياتاً من الشعر ونتحدى بعضنا بخط الرقعة , وأينا يؤديه بشكل أجمل رغم إنه خط مألوف أو ربما شديد الألفة، فاجأنا المسؤول بالقبض علينا نحن الثلاثة في لحظة واحدة, لم يتمكن أيٌ منا من الفرار إلى زاوية سور المدرسة المعدة لسرعة القفز إلى الخارج !
أمسك صفحة الكرتون الواسعة وصار يقرأ أبياتاً غزلية حفظناها من قصائد الشعر التي ندرسها :
- أين صور (السكس) التي لديكم؟!!
- والله ما عندنا!!
- كذابين.. أخرجوها بسرعة !!
وبعد أن فتشنا جيداً تيقن أنه ليس لدينا أياً منها وبدأ محاضرة طويلة حول أهمية المستقبل وحضور الدروس والوطن الذي ينتظر إنجازاتكم...
- يا كلاب.... يا خونة ... ماذا تفعلون هنا بهذه الكرتونة؟! ماذا تخبصون ؟!
- نتدرب على الخط أستاذ !
- تدرب بعد الظهر في بيت أهلك يا سافل !
أمسك الكرتونة وتأملها قليلاً وكأنه يأخذ استراحة من المحاضرة التي كلف نفسه بها .
- والله خطكم ممتاز !
أشرقت ابتسامة موحدة على وجوهنا ..
- تعالوا معي ... تعالوا
صرنا نترجاه ألا يأخذنا إلى المدير أو الموجه الذي سيُبلغ أهلنا ....
- الحقني ولاك!!
وزع علينا رزمة من الكرتون الكبير وأمرنا بكتابة أولى الشعارات التي بدأنا بها مسيرتنا معه!!!
تطورت العلاقة معه كثيراً إلى حد أنه أعطانا مفتاح غرفته للمجيء إليها في أي وقت أو في موعد أي درس لا يعجبنا !
في ذلك الشتاء غدت مدرستنا قدوة المدارس في نشر الشعارات ولصقها على الجدران وفي الممرات، وتوسع الأمر معنا إلى الشوارع الجانبية حيث نشرنا صور الزعماء مع خطوطنا الجميلة التي تمجدهم وتمجد خطواتهم التي يقودون بها الوطن !!
* * *
عندما ترفـّع مسؤولنا الطلابي بفضل نشاطنا أخذته النشوة والحماس وأمرنا ألا نحضر أي درس ..
- هذه دروس سخيفة لا تورث إلا العقم وأمتنا بحاجة إلى النشاط , سأملأ بخطوطكم الجميلة هذه المدينة كلها وليعرف أعداؤنا أننا رمز للنشاط والنجاح !!
وفعلاً.. صارت أقلامنا الثلاثة توزع حبرها في كل زاوية وشارع وتبشر الناس بالازدهار والسعادة بفضل قياداتنا الحكيمة وما على الجماهير إلا قطف الثمار الموعودة !
وعندما عمت موجة برقيات التأييد بالدم , غمسنا أقلامنا في دماء المتطوعين مسطرين صفحة جديدة في تاريخ فن الخط لم يعرفه الخطاطون الذين سبقونا , إذ اقتصرت أعمالهم على الحبر الأسود في معظمها, ولم تصل إلى السوية التي فاجأتنا في البداية وهي الكتابة بالدم!!
* * *
لا أعرف من أين جاء ذلك الصبي , طردناه أكثر من مرة، لكنه سرعان ما كان يبزغ وسط الغرفة المكتظة بالمتطوعين للتبرع بدمائهم من أجل كتابة برقيات التأييد والمؤازرة للقيادة , بعضهم يبحث عن منصب , وبعضهم له اضبارة قديمة ويأمل بأن تطوى ... وبعضهم لديه معتقل من أقربائه البعيدين يأمل ألا يحاسب كعائلة المعتقل المباشرة ... وبعضهم لديه قريب مفقود يأمل بأن يراه لمرة واحدة , والزمرة الأخيرة هي من الأمهات والأخوات وربما الأخوة الطاعنين بالسن , كلهم يتقربون بدمائهم , يحلمون بريشتنا التي ستكتب بدمهم صكوك الخلاص أو الأمل على الأقل !!
لكن ذلك الصبي لم أتمكن من معرفة قصده , كان يمد ذراعه السمراء النحيلة أمامنا مطالباً بأخذ دمه لكتابة إحدى برقيات التأييد , لم أكن أجرؤ على ضربه , لأن عملي لا يحصنني من الشبهة إذا قدم شكوى ضدي، لكنني تجاهلته ... حتى جاء مع أحد المسؤولين الكبار مثل أضحية يقدمها أحد الميسورين , قدمه لنا ليتبرع بدمه الشيطاني !!!
بعد أسبوع من تلك المناسبة مات الصبي , لا أعرف ما أصابه لكنه مات ، رأيته أمامي ميتاً , تنصل المسؤول الذي جلبه إلينا , لكن الأمر تم طيه بسرعة وكتب محضر وفاة لسبب ما من الأسباب الكثيرة التي يستطيع الأطباء الطامحون ابتكارها لموت صبي نحيل بائس , غير السبب الأكيد الذي تسببت أنا به , قد أكون أخذت منه دماً أكثر مما يحتمل أو أكون قد غمست بجسده إبرة ملوثة بدم متبرع سابق أودت بالصغير ....
أينما أسير صرت أراه قادماً إلي, وجهه الأسمر النحيل لا يفارقني , إذا التفت إلى جدار المدرسة المقابل أو زاوية الشارع التي نصبنا فيها أكبر صورة وكتبت تحتها أجمل خط كتبته في حياتي , تلك الزاوية التي صارت مزار المسؤولين والطامحين في الارتقاء على السلم الإداري بأسرع وقت , كنت أزورها سابقاً لأتمتع بمنظر الخط الذي كتبته ، بقيت أسبوعاً في تلك الزاوية آكل وأشرب وأنام عندها حتى أنجزت تلك الخطوط ... وهاهو منظر الصبي مطبوعاً عليها فلم أعد قادراً على زيارتها .... كل الجدران , كل الصور, كل كتاباتنا صارت مطبوعة بصورة الصبي , لم أعد أراها إلا كإعلانات عن الموت , أو إعلانات عن وباء غامض يجتاح المدينة..
فررتُ إلى القرية لأرتاح قليلاً من صور ذلك الشقي , فانطبعت أمامي على الجدار الطيني , صارت تأكل وتشرب معي , صارت الصورة تقاسمني حياتي...
* * *
تشتت زملائي , عادل صار كاتب عرائض أمام دار الحكومة , وصبري أعتقل مع مسؤولنا الطلابي الذي صار ملازماً له بتهمة التلاعب بأموال المنظمة الطلابية , وتقديمه معلومات كاذبة ضد خصومهم في المنظمة الذين فازوا بقيادتها, ولا أعرف ماذا حل بصفوان وغيره من زملائنا أعداء الرياضيات......
أما أنا فما أزال أحلم بالتخلص من صورة الصبي النحيل الأسمر التي التصقت بحياتي!!
منقول