الإدارة العامة والمانجمنت العامة: نطاقهما ومجالات الاختلاف والتداخل.
آباكولوا موزس سيندان، أستاذ بقسم المانجمنت العامة، الجامعة الحرة، جنوب إفريقيا.
مقدمة:
تعد
الإدارة العامة علما وفنا في الوقت نفسه، بل وتعتبر الإدارة في حد ذاتها
قديمة قدم الإنسانية، فقد مارس الإنسان الإدارة في عصور ما قبل التاريخ
حيث كانت بمثابة نشاط تعاوني يتم تفعيله بين شخصين أو أكثر يسعيان لتحقيق
هدف مشترك، ومن ثمة فإن إضفاء الطابع العلمي على الإدارة، يشير إلى أن
النشاط الإنساني قد ساهم في تحسين هذا النشاط التعاوني (الإدارة). إذ أن
الإنسان، ووعيا منه بالتعقيدات التي ينطوي عليها تجسيد مبادئ الدستور
(بصفته وثيقة سياسية)، فقد خلص إلى أن الحل يكمن في دراسة علمية للإدارة
العامة. وعلى صعيد الممارسة، فإن الأسئلة التي تطرحها الإدارة العامة
تقتضي إجابات سياسية. ومن هنا يتجلى سر العلاقة الوثيقة بين الإدارة وعلم
السياسة.
في المجتمعات الديمقراطية تعتبر الدساتير المكتوبة وغير
المكتوبة حمالا للمبادئ الأساسية والسوابق التي ترسخت ويتم حكم الدولة
وفقها. وطالما أن نجاح أية حكومة منتخبة ديمقراطيا يتوقف على رضا
المحكومين. غير أن الحصول على رضا هؤلاء المحكومين يعتمد على نجاح الجهاز
الذي توظفه الحكومة بغية تنفيذ ما هي مفوضة للقيام به. وتزود التشريعات
المنبثقة من دستور الإدارة العامة بالوجهة التي تسير وفقها كما وتعمل على
تفعيلها. وتمكن هذه التشريعات المعينين في المناصب الإدارية من تنفيذ
المهام المنوطة بهم وفق القانون.
لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار
عمومية النصوص التشريعية من جهة، ومن جهة أخرى، كون المحيط السياسي الذي
تعمل فيه الإدارة العامة يتسم بالحركية، فإنه يناط بالإداريين صلاحيات
خاصة لإصدار التشريعات المفوضة إليهم.
غير أن الإدارة العامة لا
تنطوي على نمط واحد من المبادئ والتصورات، لأنها تعمل في سياقات
سوسيو-ثقافية متباينة كما أنها تنشأ وفق محتوى فكري معين وتنطوي على قيم
مبسطة. وفضلا عن ذلك، فإن الإدارة العامة تعيش حالة من الاضطراب الدائم
كونها محكومة بالزمان والمكان، وبالسياق الثقافي، وبتباين مستويات التنمية
في المجتمعات والبلدان المختلفة. هذه الوضعية تعكس حالة علم الإدارة من
حيث تنوع مقارباته، غير أن "التحولات البارادايمية" الحديثة (ظهور نماذج
إرشادية جديدة في هذا الحقل المعرفي) تعتبر مدعاة للاهتمام كما تبينه
المباحث التالية.
لمحة عن علم الإدارة العامة
من الطبيعي
أن يمر أي حقل معرفي، وبشكل دوري، بفترات يقوم فيها الباحثون بإعادة تقييم
وضعية الحقل ومدى ملائمته على ضوء الظروف السائدة والمؤثرات المستقبلية.
مثل هذه الفترات تتكرر بوتيرة أسرع في العلوم الاجتماعية، لأنها الأكثر
تأثرا بتطور الإنسان وبتغير المحيط الذي يعيش فيه. وقد شهد حقل الإدارة
العامة فترة تحول مماثلة خلال العقدين الأخيرين، فبتغير الزمن والأفراد
بفضل التقدم التكنولوجي وتحسن مستويات التعليم، كان من الطبيعي أن يتجه
حقل الإدارة العامة نحو التحول. المجال السياسي مثلا تحول كليا إن على
المستوى المحلي، أو الإقليمي أو الدولي. لكن ما تجدر ملاحظته بالنسبة
للتحولات التي شهدها حقل الإدارة العامة، هي أنها تحولات تساير التحول في
المحيط، فهي تكيفية تعتمد على ردات الفعل، لا على استباق التحول الجاري في
محيطها، وهذا ما أضعف علم الإدارة العامة. وربما يعتبر الافتقاد لهوية
نظرية تزود الباحث بالقدرة على التنبؤ إحدى العوامل التي تفسر طبيعة علم
الإدارة العامة المتسمة بردات الفعل.
عن نظريات المشاركة العامة
سبق
وحذر الباحث King (1998) من الالتباس الحاصل حول الأسباب التي جعلت حقل
الإدارة العامة يتلقى كما كبيرا من الانتقادات من قبل باحثين آخرين، حيث
قرع King جرس الإنذار حول ما يجب أن يصف به الإدارة العامة على صعيد
النظرية والممارسة، هل هي حقل معرفي، Field أو Discipline أم أنها تقليد
بحثي Tradition أو قاعدة نظرية Theory base؟ هل تقوم الإدارة العامة
بتوليد نظريتها وممارستها من تلقاء نفسها كعلم مستقل بذاته، أم أنها محصلة
تضافر جهود نظريات وممارسات من علوم أخرى؟ في الحقيقة، يبدو أن النظرية
الإدارية تعتبر مركبا من عدة نظريات وممارسات مستمدة من علوم أخرى على
علاقة مع علم الإدارة العامة. لقد حدد "روبرت داهل" Robert Dahl الصعوبات
التي تعيق بناء علم الإدارة العامة في استحالة استبعاد القيم المعيارية،
وذلك مبرر طالما أن الإدارة العامة تدور حول الإنسان، وما ينطوي عليه ذلك
من أن الدراسة يجب أن تهتم بالسلوك الإنساني في مجال الخدمات التي تعمل
على تقديمها الوكالات الحكومية، أما النقطة الثانية لدى "روبرت داهل"
فتدور حول السياق الاجتماعي والسياسي الذي تؤدي فيه مصالح الإدارة العامة
وظائفها.
وفي تعليقه على الصعوبات التي أشار إليها "داهل" آنفا،
حذر "هيربرت" و"سيمون" Herbert ، Simon من مخاطر تبني الخط الوضعي
positivist في العلوم التطبيقية. ومع ذلك فإن الاتجاه الوضعي فرض نفسه في
حقل الإدارة العامة مما أعاق عملية تطوير نظرية إدارية صرفة.
وقد حدد Fredericksoon (1997) أربعة شروط لبناء نظرية عامة في الإدارة العامة:
§ يجب أن تستند إلى النسق القيمي للدستور؛
§ يجب أن تتبنى تصورا معززا للمواطنة الصالحة مثل النزعة الإنسانية المتمدنة؛
§ يجب أن تنبذ صراحة منافذ تحقيق مصلحة المجموعة التي تتنافى والمصلحة العامة؛
§ وأخيرا يجب أن تبني العلاقة بين الإدارة العامة وبين الجمهور على أساس الود والإحسان.
وعلى
ضوء هذه النقاط الأربعة، يمكن القول أنه يتوجب على نظرية الإدارة العامة
أن تركز أكثر على العامة لا على ذاتها. ولذلك يخلص "اسكيث" Esquith إلى
أنه، ولتحقيق هذه الشروط، فإن تصورنا للعامة يجب أن يستند إلى اعتبارهم
مجتمعا من المواطنين لا زبائن أو مستهلكين، أو ناخبين، أو مجموعات مصالح
خاصة، ومع ذلك فإن هذه النتيجة تتناقض مع توجه "المانجمت العمومية
الجديدة" NPM (New Public Management) للنظر إلى العامة باعتبارهم زبائن،
فبخلاف الإدارة العامة الصورية Formalistic.
عن تعريف الإدارة العامة:
لقد
تحدت الإدارة العامة على الدوام مساعي تحديد تعريف دقيق لها. حيث تم
استبعاد التعاريف التي تختزل في جملة واحدة أو فقرة واحدة لأنها تتضمن
كلمات أو عبارات مغالية في التجريد. هذه الكلمات والعبارات المتسمة
بالتجريد لا يمكن شرحها إلا بعبارات أخرى تجريدية، مما يفضي إلى تحليل
إدراكي عوضا عن تنوير للفكر أو إثارة له. ومع ذلك، لا تزال الحاجة ماسة
إلى تعريف جامع للإدارة العامة. لأنه سيساهم في فتح آفاق أوسع لهذا العلم.
وفي هذا الصدد، يقترح Kettel (1994) خطوتين في اتجاه التوصل إلى تعريف
جامع:
§ يتوجب على الإدارة العامة إعادة استكشاف الإشكالية
الجوهرية التي وجدت لمعالجتها. مما يعني أن سؤال المتعلق بمحتوى النشاطات
الحكومية يجب أن يحظى بإجابة واضحة. ومن ذلك، فإن تحديد القضايا الجوهرية
ذات الصلة بالنشاطات الحكومية يفترض أن يشكل القاعدة الصلبة لهذا العلم
(الإدارة العامة)؛
§ يتوجب على الإدارة العامة في خطوة ثانية أن
تبحث عن أجوبة جديدة للتساؤلات المطروحة عليها، بحيث تكون هذه الأجوبة
متلائمة مع الوقائع المتغيرة للبرامج العامة. إن ضرورة البحث عن أجوبة
جديدة ينبع من الطبيعة الديناميكية للمحيط الذي يتم فيه تفعيل نشاطات
الإدارة العامة. وفي هذا الاتجاه، يتوجب تثبيط كل مساعي توريد الحلول
(الإدارية) الناجحة من بلد بغرض تبنيها في بلد آخر دون تكييفها مع الواقع
الجديد.
في العادة يتم تعريفا الإدارة العامة حسب إحدى الطريقتين:
Ø
الإدارة العامة هي التنظيم الذي يتم في إطاره تعبئة الموارد البشرية
والمادية وتسييرها بما يتيح تحقيق الأهداف الحكومية.
Ø الإدارة العامة هي ذاتها فن وعلم "المانجمت"، الفارق الوحيد هو أنه يتم تطبيقها لتسيير شؤون الدولة.
لا
يوجد من حيث المبدأ أي خطأ في هذين التعريفين عدا أنهما لا يساعدان على
تعزيز الفهم حول الإدارة العامة. إن قضية الحصول على تعريف جامع للإدارة
العامة مهمة جدا، وهي تعود إلى عصر Liebman (1963) الذي طرح التساؤل
الآتي: هل نستطيع تدريس شيء لا نعرف حتى "ما هو"؟ وفي الاتجاه ذاته، هل
تستطيع الجامعات والكليات أن تدرج ضمن محاضراتها مقياسا يمتلك محتوى فكريا
ويتطلب جهدا عقليا حول شيء لا يعرفون بعد ما هو (الإدارة العامة)؟
الإدارة العامة من حيث الممارسة
يبدو
أن هناك توافقا أكبر حول الإدارة العامة من حيث الممارسة مقارنة
بالموضوعين الآخرين (النظرية والتعريف)، فالإدارة العامة هي الحكومة في
حالة "الفعل". إن تنفيذ المهام الحكومية يتطلب إناطتها لوكالات تتصرف
كفواعل في العملية السياسية. ورغم أن "الإدارة العامة" على صعيد الممارسة
يفترض بها أن تكون شبيهة بـ "إدارة أعمال" إلا أنها ليست كذلك: فهي حياة
اجتماعية عضوية قائمة بذاتها. وهي بحاجة إلى فهم العلاقة بين الوكالات
الحكومية والمحيط السياسي الذي تعمل فيه، ولهذا السبب، فإنه لا يجب النظر
للوكالات الحكومية باعتبارها مجرد أدوات لتنفيذ السياسات الحكومية، وهو ما
يشير إليه Wallace Sayre (1996) لدى تعليقه على الممارسات الجديدة في مجال
الإدارة العامة.
- إن النهج السائد في مجال الإدارة العامة محكوم بالسياق الزماني والمكاني والثقافي.
-
يمارس الإداريون والبيروقراطيون صلاحيات خاصة بهم ويقومون بخيارات قيمية،
ولذلك، فإن الإدارة العامة تعتبر واحدة من أهم العمليات السياسية، طالما
أنها منضوية في السياسة بطريقة أو بأخرى (وبالتالي أفول
الثنائيةالسياسة/الإدارة).
- طالما أن المشكلة الجوهرية في
الديمقراطية تتمثل في تحمل المسؤولية في ظل الرقابة الشعبية، فإن مسؤولية
الوكالات الحكومية والبيروقراطيين تجاه المسؤولين الرسميين المنتخبين،
وكذا تجاوبهم يعتبر مهما جدا، لأن الحكومة تعتمد إلى حد بعيد على ممارسة
هؤلاء الإداريين للصلاحيات المنوطة بهم ومدى نجاحهم في القيام بذلك.
وتعد
نظرية المنظمة أو التنظيم في الإدارة العامة مشكلة بالنسبة للإستراتيجية
السياسية. ويعني ذلك أن اختيار هيكلة تنظيمية معينة عادة ما تمليه المصلحة
العامة و/أو "القيم" التي تحظى بنفوذ أكبر في ذلك السياق. لذا ليس من
الغريب أن يكون الإداريون واعين بالسياق الزماني والمكاني والثقافي
وبالمستوى التنموي للبلد، بحيث أنهم يصبحون بحاجة إلى المقدرة على ترجمة
وتفسير التشريعات من جهة، والمحيط (القيم المجتمعية) من جهة أخرى، حتى
يتسنى لهم ممارسة الصلاحيات المخولة لهم، ومن هنا يطرح التساؤل الآتي: هل
يستوجب على الإدارة العامة أن تعمد إلى تكوين متخصصين أو إداريين قادرين
على ممارسة كل المهام؟ للإجابة على هذا التساؤل يبدو من الملائم الرجوع
إلى مقاربة المانجمنت العامة الجديدة NPM.
الإدارة العامة مقابل المانجمنت العامة:
تم
مناقشة محاذير وآفاق الإدارة العامة في المباحث السابقة، سواء على الصعيد
النظري أو على صعيد الممارسة، وقد تبين أن الإدارة العامة تشهد تحولات تخص
النماذج الإرشادية والمقاربات التحليلية، وقد خلص "كيتل" Kettl إلى أنه
وبعد عقدين من الانتقادات (خلال الستينات والسبعينات) فإن الإدارة العامة
خرجت باستبصارات مهمة وبآفاق واعدة.
بالنسبة للتحديات المتعلقة
بالجوانب التنفيذية للإدارة العامة، فقد تم التركيز على أسباب إخفاق
البرامج الحكومية في تنفيذ الأهداف المسطرة لها. وعادة ما يتم تبرير ذلك
بكون الإدارة العامة لا تزود الباحثين عن الكفاءة في الأداء بالشيء
الكثير. إذن، ومن خلال التركيز على الجوانب التنفيذية، تحول الاهتمام إلى
محصلات البرامج العامة، بعد أن كان منصبا على سلوك الوكالات الحكومية
وسلوك موظفيها، وتبعا لذلك، تم تشخيص العقبة الرئيسية أمام النجاح.
أصبحت
الجوانب التنفيذية شيئا من الماضي، ومع سيل الانتقادات التي تمس الإدارة
العامة إلا أن هذه الأخيرة تظل قائمة جنبا إلى جنب مع البيروقراطية، لأنها
حتى وإن لم تعمل بكفاءة عالية إلا أنها تعمل.
التحدي العقلاني الذي
تواجهه الإدارة العامة يقوم على: "نظرية الخيار العقلاني" rational choice
ونظرية: "الموكل/العضو" Principal/agent. من المنظور العقلاني، يفترض
بالبيروقراطيين (مثلهم في ذلك مثل كل الأفراد الآخرين) أن يسعوا إلى تعظيم
المنافع والحصول عل الرضا، حيث تعود تلك "المنافع" وذلك "الرضا" على
العامة الذين وجدت الإدارة العامة لخدمتهم، ومن جهتها، فإن نظرية
Principal agent تستند إلى انتقاد الوكالات الحكومية وسبل الإشراف الحكومي
الكفيلة بتحقيق النتائج والمحصلات المرجوة. ولقد قام Kettl بتوثيق جوانب
إخفاق المنظور العقلاني للإدارة العامة، ولا يتسع المقام للتفصيل فيها.
عن المانجمنت العامة الجديدة:
هل
هناك تضارب بين "الإدارة العامة" و"المانجمنت العامة"؟ وهل يمكن اعتبار
"المانجمنت العامة الجديدة" بمثابة علم جديد جاء على أنقاض الإدارة
العامة، وهل يمثل ذلك تحولا نحو "نموذج إرشادي جديد" (بارادايم جديد) في
دراسة الإدارة العامة.
يبدو أن كل شيء يتجه نحو التجديد في الألفية
الجديدة. لكن عبارات مثل "الجديد"، "التحول"، "التغيير" و"التنظيم" تعد
عبارات براقة، فقد شهد العالم تحدي الولايات المتحدة لقرارات صادرة من
مؤسسة ساهمت هي ذاتها في إنشائها (الأمم المتحدة)؛ أما إفريقيا فقد أصبحت
تبحث عن حلول إفريقية لمشاكل إفريقية من خلال إنشاء الإتحاد الإفريقي على
أنقاض منظمة الوحدة الإفريقية؛ كما ظهرت "مبادرات جديدة للشراكة من أجل
التنمية في إفريقيا" NEPAD، فضلا عن الحديث حول إنشاء "برلمان إفريقي".
وفي هذه التحولات يرى Sosen وShaw أن "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية"
OECD التزمت بالتقارب الدولي حول أجندة مشتركة للإصلاح تهدف إلى تعزيز NPM
لدى كل الأعضاء، غير أنهما يريان بأن مثل هذه النظرة تتناقض مع الاعتقاد
بأن NPM يعتبر نموذجا للإدارة العامة، يمكن تطبيقه عالميا بغض النظر عن
الخصوصيات الاجتماعية والثقافية والسياسية لأي بلد.
قام "تيري"
Terry (1998) بتعداد مزايا ومساوئ NPM. على صعيد الأرضية النظرية، يقول
"تيري"أنه يجب إخضاع المسيرين العامين لعمل رقابة مكثف؛ أما على الصعيد
التنظيمي، فيطرح استفهامات حول مدى إقناع واقع المساءلة الديمقراطية. لكن
هناك نقاط توليها NPM الأهمية التي تستحقها، فإذا ما قورنت بالإدارة
العامة، فإن NPM تركز على الدور الذي يلعبه الإداريون في قمة الهرم
القيادي والمشاكل التي تواجههم. بالإضافة إلى ذلك، فإن القضية المحورية
بالنسبة لـ NPM هي على طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، ذلك أن
المواطنين يطالبون بشكل متزايد بالحصول على خدمات ذات نوعية أفضل وقيمة
أكبر مقابل الأموال التي سيدفعونها، بينما نجدهم في المقابل يحجمون عن دفع
ضرائب أكثر.
لكن المشكلة هي أن NPM بهذه الصورة تصلح في البلدان
المتطورة، أما في البلدان النامية فإن إمكانية تطبيقها تظل محل تساؤل لأن
الدولة في البلدان النامية هي التي تأخذ على عاتقها تحقيق التنمية وتقديم
الخدمة العامة.
حتى اللغة والخطاب الذي تستخدمه NPM يطرح إشكاليات
متعددة، فهي حسب Shaw وSozen تنطوي على جلب الأنظمة التسييرية السائدة في
القطاع الخاص وتقنيات إدارة القطاع الخاص لتطبيقها في مجال الخدمات
العامة. لكن: المرونة، والإبداع، والحق في التسيير والتفويض كما هي قائمة
في NPM تعني أن الإداريين يتوجب عليهم أن يتحولوا إلى مسيرين. وفي حالة
جنوب إفريقيا، فإن المبادئ والقيم التي تحكم الإدارة العامة متضمنة في
الدستور، وهي لا تعكس على الإطلاق لغة NPM كما تتجلى في الممارسة.
يتهم
المدافعون NPM عن فإنهم يتغاضون عن الاختلافات القائمة بين المنظمات
العامة والمنظمات الخاصة (Dobuzinski, 1997)، بمعنى أنهم يتجاهلون كون
المنطق الذي تسير وفقه التنظيمات العامة (أي الدستور والمساءلة السياسية)
يختلف عن منطق التنظيمات الخاصة المتمثل في منطق السوق (Savoie95). لكن
ومع ذلك، يجب الإقرار بأن هناك تماثلات كبيرة بين المنظمات الخاصة
والعامة، طالما أن العمل الإداري هو قبل كل شيء مجهود تعاوني جماعي سواء
في ظل القطاع العام أو القطاع الخاص، والفارق هو في المقاصد والأهداف،
وأهم ما يتوجب التركيز عليه في هذا المضمار، هو أن المبدأ الجوهري في
الحكومات الديمقراطية، هو أن الموظفين العامين يتصرفون وفق توجهات الرأي
العام.
خاتمة:
تصاعدت حدة النقاش حول "الإدارة العامة"
و"المانجمنت العامة" كحقلين معرفيين، ويهدف هذا المقال إلى إثارة هذا
الموضوع، والنظر فيما إذا كان بالإمكان تدريسهما كمجالين منفصلين في مؤسسة
أكاديمية (بمعنى أن العلاقة بينهما علاقة توازي)، أم أن NPMعلم جديد جاء
على أنقاض الإدارة العامة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يحمل معنى مزدوجا،
مثله مثل الإدارة العامة كما درسنها؟ أم أن الاثنين يختلفان فحسب من حيث
أنهما ينطلقان من الافتراض نفسه، بينما يتوصلان لنتائج مختلفة؟ أو أنهما
متقاطعين، بحيث أن لهما منطلقات متباينة ونتائج متطابقة كونهما يوظفان
منهجيتين مختلفتين؟ وماذا عن مصممي البرامج الأكاديمية، هل هم مؤهلون
لتحديد مضمون مقياس "الإدارة العامة"، الذي يزاوج المحتوى التقليدي مع
NPM، ماذا لو كانت NPM تمثل نموذجا إرشاديا جديدا في "الإدارة العامة"،
فإنه لن يبق هناك مبرر لدراستها كعلم.
وما هو وقع NPM في البلدان
النامية؟ إن إمكانية تطبيقها في البلدان النامية لا يزال محل شك، وهو خلصت
إليه دراسة Sozen وShaw، والتي صدرت في شكل مقال معنون: "إمكانيات تطبيق
المانجمنت العامة الجديدة على الصعيد الدولي: دروس من "التجربة التركية".
بالنسبة
لحالة جنوب إفريقيا فإن الإدارة العامة تسير وفق المبادئ المتضمنة في
الدستور. ولا نجد أي آثار "للمانجمنت العامة" في الدستور، والعديد من
الجامعات والكليات لا تقدمها ضمن برامجها الدراسية، إن إصلاح الإدارة
العامة أو التوصل مباشرة نحو NPM لا يمكن أن يتم بالطريقة نفسها في أي
بلد، بحيث يتوجب مراعاة السياق الثقافي، ومستوى التنمية، ولذلك فقد شهدت
جنوب إفريقيا ظهور أعداد كبيرة من المستشارين والذين يتصرفون كخبراء في كل
ما يعرضونه باسم تسويق "المانجمنت العامة" أما المتربصون الذين يلتحقون
بالدورات التأهيلية في هذا المجال، وهي في العادة لا تتجاوز أسبوعين إلى
ثلاثة تتوج بـ"دبلوم"، فإنهم يعتبرون أنفسهم، حال انتهاء الدورة مؤهلين
لإدارة الشؤون العامة للدولة. والنتيجة التي وصلنا إليها هي إدارة غير
فاعلة وفاسدة، فضلا عن نظام تضخمي للرواتب لا يراعي الكفاءة في الأداء
آباكولوا موزس سيندان، أستاذ بقسم المانجمنت العامة، الجامعة الحرة، جنوب إفريقيا.
مقدمة:
تعد
الإدارة العامة علما وفنا في الوقت نفسه، بل وتعتبر الإدارة في حد ذاتها
قديمة قدم الإنسانية، فقد مارس الإنسان الإدارة في عصور ما قبل التاريخ
حيث كانت بمثابة نشاط تعاوني يتم تفعيله بين شخصين أو أكثر يسعيان لتحقيق
هدف مشترك، ومن ثمة فإن إضفاء الطابع العلمي على الإدارة، يشير إلى أن
النشاط الإنساني قد ساهم في تحسين هذا النشاط التعاوني (الإدارة). إذ أن
الإنسان، ووعيا منه بالتعقيدات التي ينطوي عليها تجسيد مبادئ الدستور
(بصفته وثيقة سياسية)، فقد خلص إلى أن الحل يكمن في دراسة علمية للإدارة
العامة. وعلى صعيد الممارسة، فإن الأسئلة التي تطرحها الإدارة العامة
تقتضي إجابات سياسية. ومن هنا يتجلى سر العلاقة الوثيقة بين الإدارة وعلم
السياسة.
في المجتمعات الديمقراطية تعتبر الدساتير المكتوبة وغير
المكتوبة حمالا للمبادئ الأساسية والسوابق التي ترسخت ويتم حكم الدولة
وفقها. وطالما أن نجاح أية حكومة منتخبة ديمقراطيا يتوقف على رضا
المحكومين. غير أن الحصول على رضا هؤلاء المحكومين يعتمد على نجاح الجهاز
الذي توظفه الحكومة بغية تنفيذ ما هي مفوضة للقيام به. وتزود التشريعات
المنبثقة من دستور الإدارة العامة بالوجهة التي تسير وفقها كما وتعمل على
تفعيلها. وتمكن هذه التشريعات المعينين في المناصب الإدارية من تنفيذ
المهام المنوطة بهم وفق القانون.
لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار
عمومية النصوص التشريعية من جهة، ومن جهة أخرى، كون المحيط السياسي الذي
تعمل فيه الإدارة العامة يتسم بالحركية، فإنه يناط بالإداريين صلاحيات
خاصة لإصدار التشريعات المفوضة إليهم.
غير أن الإدارة العامة لا
تنطوي على نمط واحد من المبادئ والتصورات، لأنها تعمل في سياقات
سوسيو-ثقافية متباينة كما أنها تنشأ وفق محتوى فكري معين وتنطوي على قيم
مبسطة. وفضلا عن ذلك، فإن الإدارة العامة تعيش حالة من الاضطراب الدائم
كونها محكومة بالزمان والمكان، وبالسياق الثقافي، وبتباين مستويات التنمية
في المجتمعات والبلدان المختلفة. هذه الوضعية تعكس حالة علم الإدارة من
حيث تنوع مقارباته، غير أن "التحولات البارادايمية" الحديثة (ظهور نماذج
إرشادية جديدة في هذا الحقل المعرفي) تعتبر مدعاة للاهتمام كما تبينه
المباحث التالية.
لمحة عن علم الإدارة العامة
من الطبيعي
أن يمر أي حقل معرفي، وبشكل دوري، بفترات يقوم فيها الباحثون بإعادة تقييم
وضعية الحقل ومدى ملائمته على ضوء الظروف السائدة والمؤثرات المستقبلية.
مثل هذه الفترات تتكرر بوتيرة أسرع في العلوم الاجتماعية، لأنها الأكثر
تأثرا بتطور الإنسان وبتغير المحيط الذي يعيش فيه. وقد شهد حقل الإدارة
العامة فترة تحول مماثلة خلال العقدين الأخيرين، فبتغير الزمن والأفراد
بفضل التقدم التكنولوجي وتحسن مستويات التعليم، كان من الطبيعي أن يتجه
حقل الإدارة العامة نحو التحول. المجال السياسي مثلا تحول كليا إن على
المستوى المحلي، أو الإقليمي أو الدولي. لكن ما تجدر ملاحظته بالنسبة
للتحولات التي شهدها حقل الإدارة العامة، هي أنها تحولات تساير التحول في
المحيط، فهي تكيفية تعتمد على ردات الفعل، لا على استباق التحول الجاري في
محيطها، وهذا ما أضعف علم الإدارة العامة. وربما يعتبر الافتقاد لهوية
نظرية تزود الباحث بالقدرة على التنبؤ إحدى العوامل التي تفسر طبيعة علم
الإدارة العامة المتسمة بردات الفعل.
عن نظريات المشاركة العامة
سبق
وحذر الباحث King (1998) من الالتباس الحاصل حول الأسباب التي جعلت حقل
الإدارة العامة يتلقى كما كبيرا من الانتقادات من قبل باحثين آخرين، حيث
قرع King جرس الإنذار حول ما يجب أن يصف به الإدارة العامة على صعيد
النظرية والممارسة، هل هي حقل معرفي، Field أو Discipline أم أنها تقليد
بحثي Tradition أو قاعدة نظرية Theory base؟ هل تقوم الإدارة العامة
بتوليد نظريتها وممارستها من تلقاء نفسها كعلم مستقل بذاته، أم أنها محصلة
تضافر جهود نظريات وممارسات من علوم أخرى؟ في الحقيقة، يبدو أن النظرية
الإدارية تعتبر مركبا من عدة نظريات وممارسات مستمدة من علوم أخرى على
علاقة مع علم الإدارة العامة. لقد حدد "روبرت داهل" Robert Dahl الصعوبات
التي تعيق بناء علم الإدارة العامة في استحالة استبعاد القيم المعيارية،
وذلك مبرر طالما أن الإدارة العامة تدور حول الإنسان، وما ينطوي عليه ذلك
من أن الدراسة يجب أن تهتم بالسلوك الإنساني في مجال الخدمات التي تعمل
على تقديمها الوكالات الحكومية، أما النقطة الثانية لدى "روبرت داهل"
فتدور حول السياق الاجتماعي والسياسي الذي تؤدي فيه مصالح الإدارة العامة
وظائفها.
وفي تعليقه على الصعوبات التي أشار إليها "داهل" آنفا،
حذر "هيربرت" و"سيمون" Herbert ، Simon من مخاطر تبني الخط الوضعي
positivist في العلوم التطبيقية. ومع ذلك فإن الاتجاه الوضعي فرض نفسه في
حقل الإدارة العامة مما أعاق عملية تطوير نظرية إدارية صرفة.
وقد حدد Fredericksoon (1997) أربعة شروط لبناء نظرية عامة في الإدارة العامة:
§ يجب أن تستند إلى النسق القيمي للدستور؛
§ يجب أن تتبنى تصورا معززا للمواطنة الصالحة مثل النزعة الإنسانية المتمدنة؛
§ يجب أن تنبذ صراحة منافذ تحقيق مصلحة المجموعة التي تتنافى والمصلحة العامة؛
§ وأخيرا يجب أن تبني العلاقة بين الإدارة العامة وبين الجمهور على أساس الود والإحسان.
وعلى
ضوء هذه النقاط الأربعة، يمكن القول أنه يتوجب على نظرية الإدارة العامة
أن تركز أكثر على العامة لا على ذاتها. ولذلك يخلص "اسكيث" Esquith إلى
أنه، ولتحقيق هذه الشروط، فإن تصورنا للعامة يجب أن يستند إلى اعتبارهم
مجتمعا من المواطنين لا زبائن أو مستهلكين، أو ناخبين، أو مجموعات مصالح
خاصة، ومع ذلك فإن هذه النتيجة تتناقض مع توجه "المانجمت العمومية
الجديدة" NPM (New Public Management) للنظر إلى العامة باعتبارهم زبائن،
فبخلاف الإدارة العامة الصورية Formalistic.
عن تعريف الإدارة العامة:
لقد
تحدت الإدارة العامة على الدوام مساعي تحديد تعريف دقيق لها. حيث تم
استبعاد التعاريف التي تختزل في جملة واحدة أو فقرة واحدة لأنها تتضمن
كلمات أو عبارات مغالية في التجريد. هذه الكلمات والعبارات المتسمة
بالتجريد لا يمكن شرحها إلا بعبارات أخرى تجريدية، مما يفضي إلى تحليل
إدراكي عوضا عن تنوير للفكر أو إثارة له. ومع ذلك، لا تزال الحاجة ماسة
إلى تعريف جامع للإدارة العامة. لأنه سيساهم في فتح آفاق أوسع لهذا العلم.
وفي هذا الصدد، يقترح Kettel (1994) خطوتين في اتجاه التوصل إلى تعريف
جامع:
§ يتوجب على الإدارة العامة إعادة استكشاف الإشكالية
الجوهرية التي وجدت لمعالجتها. مما يعني أن سؤال المتعلق بمحتوى النشاطات
الحكومية يجب أن يحظى بإجابة واضحة. ومن ذلك، فإن تحديد القضايا الجوهرية
ذات الصلة بالنشاطات الحكومية يفترض أن يشكل القاعدة الصلبة لهذا العلم
(الإدارة العامة)؛
§ يتوجب على الإدارة العامة في خطوة ثانية أن
تبحث عن أجوبة جديدة للتساؤلات المطروحة عليها، بحيث تكون هذه الأجوبة
متلائمة مع الوقائع المتغيرة للبرامج العامة. إن ضرورة البحث عن أجوبة
جديدة ينبع من الطبيعة الديناميكية للمحيط الذي يتم فيه تفعيل نشاطات
الإدارة العامة. وفي هذا الاتجاه، يتوجب تثبيط كل مساعي توريد الحلول
(الإدارية) الناجحة من بلد بغرض تبنيها في بلد آخر دون تكييفها مع الواقع
الجديد.
في العادة يتم تعريفا الإدارة العامة حسب إحدى الطريقتين:
Ø
الإدارة العامة هي التنظيم الذي يتم في إطاره تعبئة الموارد البشرية
والمادية وتسييرها بما يتيح تحقيق الأهداف الحكومية.
Ø الإدارة العامة هي ذاتها فن وعلم "المانجمت"، الفارق الوحيد هو أنه يتم تطبيقها لتسيير شؤون الدولة.
لا
يوجد من حيث المبدأ أي خطأ في هذين التعريفين عدا أنهما لا يساعدان على
تعزيز الفهم حول الإدارة العامة. إن قضية الحصول على تعريف جامع للإدارة
العامة مهمة جدا، وهي تعود إلى عصر Liebman (1963) الذي طرح التساؤل
الآتي: هل نستطيع تدريس شيء لا نعرف حتى "ما هو"؟ وفي الاتجاه ذاته، هل
تستطيع الجامعات والكليات أن تدرج ضمن محاضراتها مقياسا يمتلك محتوى فكريا
ويتطلب جهدا عقليا حول شيء لا يعرفون بعد ما هو (الإدارة العامة)؟
الإدارة العامة من حيث الممارسة
يبدو
أن هناك توافقا أكبر حول الإدارة العامة من حيث الممارسة مقارنة
بالموضوعين الآخرين (النظرية والتعريف)، فالإدارة العامة هي الحكومة في
حالة "الفعل". إن تنفيذ المهام الحكومية يتطلب إناطتها لوكالات تتصرف
كفواعل في العملية السياسية. ورغم أن "الإدارة العامة" على صعيد الممارسة
يفترض بها أن تكون شبيهة بـ "إدارة أعمال" إلا أنها ليست كذلك: فهي حياة
اجتماعية عضوية قائمة بذاتها. وهي بحاجة إلى فهم العلاقة بين الوكالات
الحكومية والمحيط السياسي الذي تعمل فيه، ولهذا السبب، فإنه لا يجب النظر
للوكالات الحكومية باعتبارها مجرد أدوات لتنفيذ السياسات الحكومية، وهو ما
يشير إليه Wallace Sayre (1996) لدى تعليقه على الممارسات الجديدة في مجال
الإدارة العامة.
- إن النهج السائد في مجال الإدارة العامة محكوم بالسياق الزماني والمكاني والثقافي.
-
يمارس الإداريون والبيروقراطيون صلاحيات خاصة بهم ويقومون بخيارات قيمية،
ولذلك، فإن الإدارة العامة تعتبر واحدة من أهم العمليات السياسية، طالما
أنها منضوية في السياسة بطريقة أو بأخرى (وبالتالي أفول
الثنائيةالسياسة/الإدارة).
- طالما أن المشكلة الجوهرية في
الديمقراطية تتمثل في تحمل المسؤولية في ظل الرقابة الشعبية، فإن مسؤولية
الوكالات الحكومية والبيروقراطيين تجاه المسؤولين الرسميين المنتخبين،
وكذا تجاوبهم يعتبر مهما جدا، لأن الحكومة تعتمد إلى حد بعيد على ممارسة
هؤلاء الإداريين للصلاحيات المنوطة بهم ومدى نجاحهم في القيام بذلك.
وتعد
نظرية المنظمة أو التنظيم في الإدارة العامة مشكلة بالنسبة للإستراتيجية
السياسية. ويعني ذلك أن اختيار هيكلة تنظيمية معينة عادة ما تمليه المصلحة
العامة و/أو "القيم" التي تحظى بنفوذ أكبر في ذلك السياق. لذا ليس من
الغريب أن يكون الإداريون واعين بالسياق الزماني والمكاني والثقافي
وبالمستوى التنموي للبلد، بحيث أنهم يصبحون بحاجة إلى المقدرة على ترجمة
وتفسير التشريعات من جهة، والمحيط (القيم المجتمعية) من جهة أخرى، حتى
يتسنى لهم ممارسة الصلاحيات المخولة لهم، ومن هنا يطرح التساؤل الآتي: هل
يستوجب على الإدارة العامة أن تعمد إلى تكوين متخصصين أو إداريين قادرين
على ممارسة كل المهام؟ للإجابة على هذا التساؤل يبدو من الملائم الرجوع
إلى مقاربة المانجمنت العامة الجديدة NPM.
الإدارة العامة مقابل المانجمنت العامة:
تم
مناقشة محاذير وآفاق الإدارة العامة في المباحث السابقة، سواء على الصعيد
النظري أو على صعيد الممارسة، وقد تبين أن الإدارة العامة تشهد تحولات تخص
النماذج الإرشادية والمقاربات التحليلية، وقد خلص "كيتل" Kettl إلى أنه
وبعد عقدين من الانتقادات (خلال الستينات والسبعينات) فإن الإدارة العامة
خرجت باستبصارات مهمة وبآفاق واعدة.
بالنسبة للتحديات المتعلقة
بالجوانب التنفيذية للإدارة العامة، فقد تم التركيز على أسباب إخفاق
البرامج الحكومية في تنفيذ الأهداف المسطرة لها. وعادة ما يتم تبرير ذلك
بكون الإدارة العامة لا تزود الباحثين عن الكفاءة في الأداء بالشيء
الكثير. إذن، ومن خلال التركيز على الجوانب التنفيذية، تحول الاهتمام إلى
محصلات البرامج العامة، بعد أن كان منصبا على سلوك الوكالات الحكومية
وسلوك موظفيها، وتبعا لذلك، تم تشخيص العقبة الرئيسية أمام النجاح.
أصبحت
الجوانب التنفيذية شيئا من الماضي، ومع سيل الانتقادات التي تمس الإدارة
العامة إلا أن هذه الأخيرة تظل قائمة جنبا إلى جنب مع البيروقراطية، لأنها
حتى وإن لم تعمل بكفاءة عالية إلا أنها تعمل.
التحدي العقلاني الذي
تواجهه الإدارة العامة يقوم على: "نظرية الخيار العقلاني" rational choice
ونظرية: "الموكل/العضو" Principal/agent. من المنظور العقلاني، يفترض
بالبيروقراطيين (مثلهم في ذلك مثل كل الأفراد الآخرين) أن يسعوا إلى تعظيم
المنافع والحصول عل الرضا، حيث تعود تلك "المنافع" وذلك "الرضا" على
العامة الذين وجدت الإدارة العامة لخدمتهم، ومن جهتها، فإن نظرية
Principal agent تستند إلى انتقاد الوكالات الحكومية وسبل الإشراف الحكومي
الكفيلة بتحقيق النتائج والمحصلات المرجوة. ولقد قام Kettl بتوثيق جوانب
إخفاق المنظور العقلاني للإدارة العامة، ولا يتسع المقام للتفصيل فيها.
عن المانجمنت العامة الجديدة:
هل
هناك تضارب بين "الإدارة العامة" و"المانجمنت العامة"؟ وهل يمكن اعتبار
"المانجمنت العامة الجديدة" بمثابة علم جديد جاء على أنقاض الإدارة
العامة، وهل يمثل ذلك تحولا نحو "نموذج إرشادي جديد" (بارادايم جديد) في
دراسة الإدارة العامة.
يبدو أن كل شيء يتجه نحو التجديد في الألفية
الجديدة. لكن عبارات مثل "الجديد"، "التحول"، "التغيير" و"التنظيم" تعد
عبارات براقة، فقد شهد العالم تحدي الولايات المتحدة لقرارات صادرة من
مؤسسة ساهمت هي ذاتها في إنشائها (الأمم المتحدة)؛ أما إفريقيا فقد أصبحت
تبحث عن حلول إفريقية لمشاكل إفريقية من خلال إنشاء الإتحاد الإفريقي على
أنقاض منظمة الوحدة الإفريقية؛ كما ظهرت "مبادرات جديدة للشراكة من أجل
التنمية في إفريقيا" NEPAD، فضلا عن الحديث حول إنشاء "برلمان إفريقي".
وفي هذه التحولات يرى Sosen وShaw أن "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية"
OECD التزمت بالتقارب الدولي حول أجندة مشتركة للإصلاح تهدف إلى تعزيز NPM
لدى كل الأعضاء، غير أنهما يريان بأن مثل هذه النظرة تتناقض مع الاعتقاد
بأن NPM يعتبر نموذجا للإدارة العامة، يمكن تطبيقه عالميا بغض النظر عن
الخصوصيات الاجتماعية والثقافية والسياسية لأي بلد.
قام "تيري"
Terry (1998) بتعداد مزايا ومساوئ NPM. على صعيد الأرضية النظرية، يقول
"تيري"أنه يجب إخضاع المسيرين العامين لعمل رقابة مكثف؛ أما على الصعيد
التنظيمي، فيطرح استفهامات حول مدى إقناع واقع المساءلة الديمقراطية. لكن
هناك نقاط توليها NPM الأهمية التي تستحقها، فإذا ما قورنت بالإدارة
العامة، فإن NPM تركز على الدور الذي يلعبه الإداريون في قمة الهرم
القيادي والمشاكل التي تواجههم. بالإضافة إلى ذلك، فإن القضية المحورية
بالنسبة لـ NPM هي على طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، ذلك أن
المواطنين يطالبون بشكل متزايد بالحصول على خدمات ذات نوعية أفضل وقيمة
أكبر مقابل الأموال التي سيدفعونها، بينما نجدهم في المقابل يحجمون عن دفع
ضرائب أكثر.
لكن المشكلة هي أن NPM بهذه الصورة تصلح في البلدان
المتطورة، أما في البلدان النامية فإن إمكانية تطبيقها تظل محل تساؤل لأن
الدولة في البلدان النامية هي التي تأخذ على عاتقها تحقيق التنمية وتقديم
الخدمة العامة.
حتى اللغة والخطاب الذي تستخدمه NPM يطرح إشكاليات
متعددة، فهي حسب Shaw وSozen تنطوي على جلب الأنظمة التسييرية السائدة في
القطاع الخاص وتقنيات إدارة القطاع الخاص لتطبيقها في مجال الخدمات
العامة. لكن: المرونة، والإبداع، والحق في التسيير والتفويض كما هي قائمة
في NPM تعني أن الإداريين يتوجب عليهم أن يتحولوا إلى مسيرين. وفي حالة
جنوب إفريقيا، فإن المبادئ والقيم التي تحكم الإدارة العامة متضمنة في
الدستور، وهي لا تعكس على الإطلاق لغة NPM كما تتجلى في الممارسة.
يتهم
المدافعون NPM عن فإنهم يتغاضون عن الاختلافات القائمة بين المنظمات
العامة والمنظمات الخاصة (Dobuzinski, 1997)، بمعنى أنهم يتجاهلون كون
المنطق الذي تسير وفقه التنظيمات العامة (أي الدستور والمساءلة السياسية)
يختلف عن منطق التنظيمات الخاصة المتمثل في منطق السوق (Savoie95). لكن
ومع ذلك، يجب الإقرار بأن هناك تماثلات كبيرة بين المنظمات الخاصة
والعامة، طالما أن العمل الإداري هو قبل كل شيء مجهود تعاوني جماعي سواء
في ظل القطاع العام أو القطاع الخاص، والفارق هو في المقاصد والأهداف،
وأهم ما يتوجب التركيز عليه في هذا المضمار، هو أن المبدأ الجوهري في
الحكومات الديمقراطية، هو أن الموظفين العامين يتصرفون وفق توجهات الرأي
العام.
خاتمة:
تصاعدت حدة النقاش حول "الإدارة العامة"
و"المانجمنت العامة" كحقلين معرفيين، ويهدف هذا المقال إلى إثارة هذا
الموضوع، والنظر فيما إذا كان بالإمكان تدريسهما كمجالين منفصلين في مؤسسة
أكاديمية (بمعنى أن العلاقة بينهما علاقة توازي)، أم أن NPMعلم جديد جاء
على أنقاض الإدارة العامة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يحمل معنى مزدوجا،
مثله مثل الإدارة العامة كما درسنها؟ أم أن الاثنين يختلفان فحسب من حيث
أنهما ينطلقان من الافتراض نفسه، بينما يتوصلان لنتائج مختلفة؟ أو أنهما
متقاطعين، بحيث أن لهما منطلقات متباينة ونتائج متطابقة كونهما يوظفان
منهجيتين مختلفتين؟ وماذا عن مصممي البرامج الأكاديمية، هل هم مؤهلون
لتحديد مضمون مقياس "الإدارة العامة"، الذي يزاوج المحتوى التقليدي مع
NPM، ماذا لو كانت NPM تمثل نموذجا إرشاديا جديدا في "الإدارة العامة"،
فإنه لن يبق هناك مبرر لدراستها كعلم.
وما هو وقع NPM في البلدان
النامية؟ إن إمكانية تطبيقها في البلدان النامية لا يزال محل شك، وهو خلصت
إليه دراسة Sozen وShaw، والتي صدرت في شكل مقال معنون: "إمكانيات تطبيق
المانجمنت العامة الجديدة على الصعيد الدولي: دروس من "التجربة التركية".
بالنسبة
لحالة جنوب إفريقيا فإن الإدارة العامة تسير وفق المبادئ المتضمنة في
الدستور. ولا نجد أي آثار "للمانجمنت العامة" في الدستور، والعديد من
الجامعات والكليات لا تقدمها ضمن برامجها الدراسية، إن إصلاح الإدارة
العامة أو التوصل مباشرة نحو NPM لا يمكن أن يتم بالطريقة نفسها في أي
بلد، بحيث يتوجب مراعاة السياق الثقافي، ومستوى التنمية، ولذلك فقد شهدت
جنوب إفريقيا ظهور أعداد كبيرة من المستشارين والذين يتصرفون كخبراء في كل
ما يعرضونه باسم تسويق "المانجمنت العامة" أما المتربصون الذين يلتحقون
بالدورات التأهيلية في هذا المجال، وهي في العادة لا تتجاوز أسبوعين إلى
ثلاثة تتوج بـ"دبلوم"، فإنهم يعتبرون أنفسهم، حال انتهاء الدورة مؤهلين
لإدارة الشؤون العامة للدولة. والنتيجة التي وصلنا إليها هي إدارة غير
فاعلة وفاسدة، فضلا عن نظام تضخمي للرواتب لا يراعي الكفاءة في الأداء