في ذلك البيت الجنوبي كانت الحاجة فضيلة وهبي تنتظر حدثين: الأول هو عودة الزوج الأسير منذ
حوالي خمسة أشهر,والثاني وضع مولودها الأول, ولكن الحدث الثاني كان الأسبق, ففي 3/4/1989
رزقت الحاجة بطفلة أسمتها (جميلة).
فتحت جميله عينيها فلم تجد سوى والدتها التي كانت بمثابة الأم والأخ والاخت والصديقة, ومع توالي الشهور والسنوات, أخذ السؤال الصعب يجد طريقه إلى لسان جميلة: (( أين بابا)) وكان سؤال الطفلة يقع على الوالدة وقوع الصاعقة, فبما تجيب, وكيف لها أن تشرح لطفلة لم يتجاوز عمرها الثلاث سنوات معنى الأسر وضريبة مقاومة الاحتلال.
دخلت جميلة المدرسة وهناك ازدادت دائرة معارفها واتسعت علاقاتها, وبدأت بوعيها الفطري تدرك أكثر فأكثر معنى الأسر وسبب غياب والدها عن البيت, نقطة التحول الكبيرة في حياتها كانت لحظة أخبرتها أمها بأن والدها أرسل لها رسالة من المعتقل , وبدأت الاتصالات بين جميلة ووالدها عبر الرسائل التي كانت تكتبها محملة بالأسئلة والأمنيات بالعودة السريعة, وكان فرحتها لا توصف عند وصول أي رسالة من والدها,فكانت تحفظها كلمة كلمة وتردد جملها على مسامع الأم, أما الهدايا فكانت تأخذ مكانها سريعا في زوايا غرف المنزل,بعد أن يتم عرضها على كل الصديقات والأقارب.
بخلاف ما جرى مع الناس على اختلاف أعمارهم, لم يفت المرض من عضد جميلة, فكانت تعض على الجرح وتعيش حياتها كما يعيشها الآخرون, بل كانت تصبر قلب أمها بإختفاء ألمها ومعاناتها, ولم يكن المرض ليمنعها من مواصلة دراستها والتفوق فيها,
ولعب دورها في متابعة قضية الأسرى في سجون الكيان الصهيوني من خلال تجمع
((كريمات الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي)), الذي زار العديد من الشخصيات الدولية لطرح قضية المعتقلين والمطالبة بإطلاق سراحهم.
بعد سنوات من المعاناة بسبب المرض الذي كان يشتد على جميلة يوما بعد يوم, أزفت ساعة الرحيل إلى دار الحق, وعن اللحظات الأخيرة من حياة الطفلة الشهيدة تقول والدتها الحاجة فضيلة وهبة:
((ليلة التاسع عشر من شهر تشرين الأول للعام 2002م وقبل ذهابي إلى النوم طلبت مني تقبيلها وضمها إلى صدري,ونامت بعد ذلك لتستيقظ مجددا لمساعدتي في غسل الملابس, وعند آذان الفجر وقبل أن تعود إلى النوم توضأت جميلة وصلت...وشعرت بضيق نفس , فوضعت لها جهاز التنفس,إلا أن ذلك لم يكن يريحها, وكانت كلماتها الأخيرة : يا ماما أريد أن أرتاح ... وبدأت تحتضر))...
جميلة جواد قصفي نموذج فريد يجمع ويختصر صنوف الألم والمعاناة التي يكابدها الناس
في مشارق الأرض ومغاربها, فقد اجتمع عليها ألم المرض ومعاناة فقدان الوالد الحي, ورغم حداثة سنها وضعف بنيتها الجسدية التي أنهكها المرض أعطت المثال في الصبر والجلد وحب الحياة حتى آخر لحظة من حياتها.
هي حالة استثنائية,هي شهيدة وشاهدة: شاهدة على سيادة الظلم والعدوان في عالم تسوده شريعة الغاب, رحلت بعد أن كانت شاهدة على همجية الاحتلال وإجرامه, رحلت بعد أن شاهدت بأم العين مجازره في باص الأطفال في النبطية ومجزرة قانا والمنصورية, ومجازره المتنقلة في فلسطين وقتل الأطفال بدم بارد,رحلت بعد أن أثقلت الآلام كاهلها, وحملتها ما يعجز الرجال عن حمله.