الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596 ـ1650 ) أشهر من نار على علم. فمن لا يسمع باسم ديكارت؟ أليس هو مؤسس العقلانية الى درجة انها اختلطت به تماما؟
فعندما نقول عن شيء ما بأنه ديكارتي فهذا يعني انه عقلاني. وعندما نقول بأن الفرنسيين ديكارتيون فإن ذلك يعني انهم عقلانيون بكل بساطة. لقد أثر هذا الفيلسوف على شعب بأسره وطبعه بطابعه الى حد اننا لم نعد نستطيع التمييز بين الشعب والشخص. لقد كان أمة وحده. وحتى تنظيم الشوارع والساحات العامة في فرنسا يحمل سمات المنهجية الديكارتية من حيث الوضوح والدقة. ولكن من يعرف بأن ديكارت كان يخشى رجال الكنيسة إلى أقصى حد، وانه عاش طيلة حياته تقريبا وهو يتحاشى سيفهم المسلط فوق رأسه؟
نقول ذلك على الرغم من كل الاحتياطات التي اتخذها وأساليب التقية التي اتبعها لكي ينجو من شرهم. ولهذا السبب غادر بلاده فرنسا التي كانت مليئة بالأصوليين المتعصبين على طريقة المذهب الكاثوليكي، وذهب للعيش في بلد بروتستانتي أكثر حرية أو ليبرالية هو: هولندا، لكن حتى هناك كان يغيّر منزله باستمرار ويعيش متواريا عن الأنظار إلى حد كبير لكي يكتب ويفكر بحرية. فديكارت كان يعرف انه اكتشف حقائق ضخمة في مجال العلوم والفلسفة، لكن سابقة لأوانها. فهي تصطدم بشكل مباشر بالأخطاء الشائعة في عصره والتي تفرض نفسها وكأنها يقينيات مطلقة لا تناقش ولا تمس.
وفي مقدمتها بالطبع القول بأن الأرض هي مركز الكون وان الشمس تدور حولها وليس العكس. وهي مقولة ارسطوطاليسية وبطليموسية كانت الكنيسة المسيحية قد تبنتها وخلعت عليها المشروعية القدسية للدين. وبالتالي فمن يعترض عليها لا يعترض على نظرية علمية من جملة نظريات أخرى وإنما يعترض على الدين ذاته ويعرض نفسه بالتالي للخطر الاعظم. لذلك فعندما سمع ديكارت بإدانة غاليليو من قبل المكتب المقدس في الفاتيكان خاف وسحب كتابه من المطبعة. وكان على وشك أن يعلن آراءه على الملأ من خلال رسالة تشرح نظام العالم الطبيعي وتؤيد نظرية كوبرنيكوس بخصوص دوران الأرض حول الشمس وأشياء أخرى. وقال لأصدقائه الخُلص: لا أريد أن أضحي بطمأنينتي الشخصية من اجل أفكاري. وقد اتهمه البعض بالجبن والتخاذل من جراء ذلك.
لكن هؤلاء لا يطرحون على أنفسهم هذا السؤال: ما الفائدة من تعريض نفسه للملاحقة، أو ربما للتصفية الجسدية، قبل أن يكون قد أكمل رسالته؟ فديكارت في ذلك الوقت كان قد أكمل الأربعين، وبالتالي فإن اكتشافاته كانت لا تزال أمامه لا خلفه، ولو انه دخل في صراع مكشوف مع الكنيسة لسحقته بسهولة ولما استطاع إنضاج أفكاره على مهل ومواصلة بحثه عن الحقيقة. وبالتالي فاستراتيجية المهادنة والكتمان كانت إجبارية لكي يستطيع أن يعيش بضع سنوات إضافية ويصنع قنابله الفكرية الموقوتة التي فجرت الأصولية المتزمتة بعد موته مباشرة. وعندما شعر الاصوليون بخطورته كان من ضرب قد ضرب، ومن هرب قد هرب، ولم يعودوا بقادرين على تدارك الحريق أو إطفائه. وكان ديكارت قد سلّم الأمانة وأصبح يرقد هادئا في قبره. بالطبع فإنهم وضعوا كتبه على قائمة المطبوعات المحرّم تبادلها بالإضافة إلى كتب كوبرنيكوس وغاليليو، وباسكال، وكيبلو، وعشرات العلماء والفلاسفة الآخرين. ولكن ما همّه! فكره كان قد انتشر كالحريق في شتى أنحاء أوروبا، وفلسفته أصبحت تُدرس في العديد من جامعات هولندا وسواها. وهكذا ضرب ديكارت ضربته على مهل وبدون أي ضجيج أو استفزاز. كان يعرف أن المعركة طويلة، صعبة، وان قوى الظلام والانغلاق راسخة الجذور ولا يمكن زحزحتها بسهولة، وبالتالي فلا ينبغي أن نواجهها بشكل مباشر وإنما بشكل موارب.
وأحيانا ينبغي أن نخوض معها حرب مواقع حقيقية. وكان يقول عبارته الشهيرة والغامضة إلى حد ما: «الفيلسوف يتقدم مقنَّعا على مسرح العالم..» الفيلسوف لا يكشف أوراقه بسهولة، أو من أول ضربة. نقول ذلك وبخاصة إذا كان فيلسوفا ضخما يقسم التاريخ الى قسمين، ما قبله وما بعده. فديكارت تجرأ على ان يقوم بأكبر انقلاب فلسفي في تاريخ العصور الحديثة. انه الانقلاب الذي أزاح أرسطو عن عرشه وقضى على هيمنته التي استمرت ألفي سنة. وهي هيمنة شملت العرب، المسلمين مثلما شملت الأوروبيين المسيحيين سواء بسواء، الآن ابتدأت الفلسفة الحديثة.
الصدام بين الطرفين كان محتوما وإجباريا. ولذلك كثرت الملاحقات في شتى أنحاء أوروبا. ففي هولندا اعتقل العالم الكيميائي والطبيب (فان هيلمونت) بعد محاكمة غاليليو مباشرة. وفي بلجيكا اضطر العالم (بيرنوي) إلى الهرب. وأما البروفيسور (فان فيلدين) من جامعة (لوفان) فقد سجن أيضا بتهمة تأييد النظريات العلمية الحديثة عن نشأة الكون. وهي تتعارض بالطبع مع ما ورد سفر التكوين.
وفي إسبانيا حيث كانت محاكم التفتيش تخنق الأنفاس قبل العقول نشر الطبيب (سابيكو) كل مؤلفاته تحت اسم ابنته، ولم يكتشفوا الخديعة إلا بعد أربعمائة سنة من موته! وشاعت في ذلك الزمان ممارسة الرقابة الذاتية على الذات. فالعلماء ما كانوا ينشرون أبحاثهم إلا بعد موتهم، وإذا ما نشروها كانوا يحذفون منها المقاطع الخطرة التي تتعارض مع أفكار رجال الكنيسة. وفي عام 1546 أُعدم المفكر الإنساني (ايتيان دوليه) حرقا بتهمة الزندقة والإلحاد لأنه كان يدافع عن التسامح الديني. وأما المفكر الإيطالي (كامبانيلا) فقد اعتقل اكثر من ربع قرن بعد ان سرقت محاكم التفتيش مخطوطاته. هذا في حين ان العالم والفيلسوف الشهير (جيوردانو برينو) قتل قتلة رهيبة ثم ألقي بجسده طعمة للنيران في كهوف الفاتيكان المظلمة عام (1600) بالضبط. وبالتالي فكيف يمكن لديكارت ألا يخاف منهم ومن بطشهم؟! لذلك فإنه نشر كتابه الشهير )مقال في المنهج( عام (1637) بدون توقيع. نقول ذلك على الرغم من انه اتخذ فيه كل الاحتياطات اللازمة وصرح أكثر من مرة بأنه متقيد بمبادئ الدين الذي ولد في أحضانه، بل واهدى كتابه الكبير (التأملات الميتافيزيقية) لفقهاء السوربون الكبار لكي يكسب رضاهم. والسوربون آنذاك لم تكن هي الجامعة التي نعرفها الآن. كانت عبارة عن كلية لاهوت مسيحية وذات سمعة ضخمة داخل فرنسا وخارجها.
كانت هي التي تصدر الفتاوى بإدانة الكتب وتحريمها، أو على العكس إجازتها وإعطائها رخصة الانتشار. كما وكانت تصدر الفتاوى اللاهوتية بحق المفكرين فتكفر من تكفر، أو تبرئ من تبرئ على هواها. ولكن كل هذه الاحتياطات والمجاملات لم تنفع ديكارت كثيرا في نهاية المطاف. ففي عام (1649)، أي قبل موته بسنة واحدة، أصدر احد اليسوعيين فتوى تدين كتابه (مبادئ الفلسفة) باسم الزندقة. وفي عام (1663) أي بعد موته بثلاث عشرة سنة وضع الفاتيكان كتبه على لائحة الكتب المحرمة. وهي الكتب التي تنصح الكنيسة الكاثوليكية رعاياها بعدم قراءتها بأي شكل لأنها مخالفة لصحيح العقيدة.. وقد عاش ديكارت وهو يتحسر لأن العلم الطبيعي لم يحصل على استقلاليته بالقياس إلى العلم اللاهوتي. وموقفه من هذه الناحية لا يختلف في شيء عن موقف غاليليو وباسكال. كانوا يقولون بما معناه: إذا ما حصل تعارض بين تعاليم الكنيسة وأفكارها وبين إحدى نظريات العلم الحديث من جهة أخرى فإنه ينبغي أن نعيد تأويل تعاليم الكنيسة لكي يتماشى مع العلم والعقل.
سارت حركة التاريخ في الاتجاه الذي رسمه هؤلاء الفلاسفة فيما بعد. صحيح أن عصرهم لم يستمع لهم، لكن العصور اللاحقة اتبعتهم واكتشفت أنهم كانوا على صواب وعصرهم كله على خطأ. بل وحتى البابا الحالي راح يعترف بعظمتهم ويعتذر عما فعلته الكنيسة من أخطاء في تاريخها السابق.