ثروة العرب ... متى تتحول نفوذاً سياسياً ؟ - باتريك سيل
تنهمر في الوقت الحالي على الدول العربية المنتجة للنفط ثروات طائلة من عوائد بيع هذه المادة الثمينة، لدرجة يمكن معها القول، بأن تلك الدول لم تصل في أي مرحلة من تاريخها إلى درجة الثراء التي هي عليها الآن. مع ذلك، لا تزال هناك مفارقة تدعو للدهشة في الحقيقة وهي تلك المتمثلة في أن الوزن السياسي للعرب -على الرغم من ثروتهم الطائلة والآخذة في التزايد- لا يزال ضئيلاً بل يكاد لا يستحق الذكر. فهم لم يحولوا، على الأقل حتى الآن، ثروتهم إلى نفوذ سياسي وفقاً للمقاييس العالمية.
وهذا في الحقيقة أمر يدعو للدهشة في المنطقة العربية من الشرق الأوسط. فالبعض في هذه المنطقة يطرح أسئلة تبدو وكأنه لا توجد إجابة منطقية عليها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: لماذا عجز العرب عن حل الأزمات الخطيرة التي تواجههم في العراق ولبنان والتي تمزق منطقتهم وتدفع بها إلى مصائر مجهولة؟ لماذا سمح العرب للولايات المتحدة بتجاهل مصالحهم في الصراع العربي الإسرائيلي الملتهب، والانحياز بشكل كامل للمصالح الإسرائيلية؟ لماذا لم يتدخل العرب من أجل نزع فتيل المواجهة الخطرة بين الغرب وإيران، والتي ستكون ذات تداعيات كارثية على الخليج بأسره، إذا ما وصلت إلى حد الصراع العسكري؟ ولماذا يبدو العرب، وكأنهم يركزون اهتمامهم وجل طاقتهم على التجارة، وعلى تحقيق مزيد من الثروات، مع ترك مصائرهم السياسية في أيدي القوى الأجنبية إلى حد كبير؟
قد يذهب البعض للقول بأن المشكلة تكمن في النزاعات العربية القديمة، وفي الانقسام الطائفي بين السنة والشيعة، وفي غياب الإجماع العربي الشامل، وفي القيادات الاستبدادية، وفي التأثير المعوق لأجهزة الأمن والاستخبارات على المجتمعات العربية، وفي الافتقار إلى الحوار الديمقراطي الفعال الذي يضمن الحيوية لتلك المجتمعات.
مهما كانت الأسباب، وهي لا شك عديدة وعميقة الجذور، فإن ما يحدث الآن هو أن العرب باتوا يعكسون في الوقت الراهن صورة واضحة للعجز، وعدم القدرة على الفعل، حتى عندما يتعلق الأمر بمصالحهم الحيوية.
أقول ذلك لأن الثروة لا تنقصهم، ولأن الثروة في معظم المجتمعات تعني القوة، وهو ما يجب أن يسري على الوطن العربي أيضاً. لكن الحاصل أن شيئاً من ذلك لم يحدث على الأقل حتى الآن. وقد يكون من المفيد هنا أن نتذكر أرقام أسعار النفط عبر السنوات. ففي الثاني عشر من ديسمبر عام 1998، انهارت أسعار النفط حتى وصلت إلى 10.76 دولار للبرميل. وفي يناير 2007، استعادت تلك الأسعار عافيتها ووصلت إلى 58 دولاراً للبرميل، وبعد ذلك ولدهشة العالم وفزعه في الوقت ذاته، قفز هذا السعر في الثاني من يناير 2008 إلى معدل قياسي لم يكن قد وصل إليه من قبل وهو 100 دولار للبرميل. بيد أن ارتفاع الأسعار لم يتوقف عند ذلك، ففي الأسبوع الماضي، ارتفعت أسعار البترول مرة واحدة إلى 140 دولاراً للبرميل، ويتوقع بعض الخبراء وصولها إلى 200 دولار للبرميل.
إننا نمر بما يبدو وكأنه أول أزمة كبرى تواجهنا في القرن الحادي والعشرين. فبعيدا عن النفط، أظهرت أسعار العملات الأجنبية وأسعار السلع تقلباً هائلاً، حيث زادت أسعار المواد الغذائية على سبيل المثال بنسبة 40 في المئة خلال العام الماضي، وهي أكبر نسبة ارتفاع تشهدها منذ عام 1978. وسعر القمح بشكل خاص تضاعف خلال الفترة ما بين مارس 2007، ومارس 2008، وهو ما تسبب في مشكلات هائلة لبعض الدول ومنها على سبيل المثال مصر التي تستورد نصف احتياجاتها من القمح من الخارج.
وتقدر مصادر منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) أن 36 دولة -منها 21 على الأقل في القارة الأفريقية- سوف تكون بحاجة إلى الحصول على مساعدات من الأغذية من الدول الأجنبية عام 2008 حتى تتمكن من إطعام شعوبها.
إضافة إلى ذلك أثرت أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة على النظام المالي العالمي بأسره، وهو ما أدى إلى خسائر ضخمة تربو على تريليون دولار للبنوك الكبرى وشركات التأمين، وصناديق المعاشات، وصناديق الاحتياط، وغيرها من المؤسسات المالية، وهو أمر لا يمكن لنا أن نطلق عليه وصفاً أقل من كونه "زلزالاً مالياً" بمعنى الكلمة.
وفي نفس الوقت انهارت قيمة الدولار الأميركي الذي ترتبط به عملات دول الخليج (باستثناء الدينار الكويتي الذي فك ارتباطه به اعتباراً من مايو 2007). وترجع أسباب الانهيار إلى العجز الضخم في الميزانية الأميركية، وفي الميزان التجاري وميزان المدفوعات بسبب التورط الأميركي في الحرب الكارثية في العراق للعام الخامس على التوالي، كما يرجع إلى التحذيرات من حدوث انكماش في الاقتصاد الأميركي، وهبوط حاد في معدلات الفائدة الأميركية.
وفي الوقت ذاته، تتحرك الثروة والقوة بعيداً عن العالم الغربي الذي كان مهيمناً فيما مضى، إلى دول أخرى مثل الصين والهند والبرازيل وغيرها من دول الاقتصادات البازغة.
والصين تبز تلك الدول كلها من حيث معدلات التنمية فيها والتي تتجاوز علامتين عشريتين، ومن حيث احتياطياتها المتنامية من العملات الأجنبية، وصادراتها التي تتفوق بها على الجميع، وغزواتها من أجل تحقيق مصالحها التجارية في أعماق أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، ونهمها الذي لا يشبع للمواد الخام وعلى رأسها النفط بالطبع، والذي تعد هي ثاني أكبر دولة مستهلكة له في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية ذاتها.
هذا هو واقع العالم الذي يعيش فيه العرب، والذين يجب أن يلموا بتفاصيله، وبحقائقه الجديدة، وأن يتنبهوا إلى أن بترولهم مصدر ناضب من مصادر الثروة، وأنهم بحاجة لأن يكونوا أكثر حرصاً على عدم إضاعة دولار واحد من مداخيل النفط المنهمرة عليهم، وأن يبدؤوا في بناء اقتصاد ما بعد الحقبة النفطية.
وهم بعد ذلك كله، بل ربما قبله، بحاجة إلى ترجمة ثروتهم، من خلال الرؤية الواضحة، والذكاء الثاقب، والإرادة القوية... إلى نفوذ سياسي، من أجل حل العديد من الصراعات التي تستنزف طاقاتهم، وتدمر شعوبهم، وتحول بينهم وبين احتلال المكانة التي يستحقونها في هذا العالم.
الاتحاد الإماراتية
أزمة الطاقة والغذاء الحالية، تعد موضوعاً ذا طبيعة اقتصادية مالية بحتة بالنسبة لمجتمع مثل المجتمع الأميركي، أما عندما يتعلق الأمر بالمجتمع المصري، الذي يعيش كثير من أفراده بالقرب من الحافة، فإن ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، يعد موضوعاً مزعزعاً للاستقرار بدرجة هائلة.
منذ سنوات قليلة، بدأ الرئيس المصري حملة للإصلاح الاقتصادي، مكنت مصرَ من تحقيق معدل نمو سنوي قدره 7% خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بيد أن هذا النمو مهدد الآن بسبب الزيادة الكبيرة في أسعار الغذاء والطاقة، والتي تبدو في نظر الكثيرين هنا، وكأنها سرب هائل من الجراد يجتاح دلتا النيل، يأتي على الأخضر واليابس.
أثناء وجودي مؤخراً في القاهرة قررت أن أبدأ أحد الأيام بزيارة لضاحية "شبرا" القاهرية التي ينتمي معظم سكانها إلى الطبقة الوسطى الدنيا.
في هذا الحي، وقفت أمام محل كتبت على لافتته "حسين العشري للدواجن"، أدركت بعد قليل أنه يمنح معنى جديداً لمصطلح "الدواجن الطازجة". ما رأيته في هذا المحل، هو أن الزبائن يختارون ما يريدون من دجاج من الأقفاص الموجودة فيه، كي يقوم العشري بعد ذلك بذبحها، ونزع ريشها، ثم تسليمها لهم في أكياس بلاستيكية بكامل أجزائها. وكان نشاط محل "العشري"، كما قال لي، قد ازدهر خلال السنوات الأخيرة، بعدما أصبح بمقدور أعداد إضافية من الطبقة الوسطى المصرية الدنيا، شراء اللحوم بمختلف أنواعها. لكن ما حدث خلال الشهور الستة الأخيرة هو أن أسعار اللحوم والدواجن، تضاعفت إلى جانب أسعار الكهرباء والوقود والعلف والأدوية التي تعطى للدواجن... بل وكل شيء تقريباً.
وإذا ما عرفنا أن الإنفاق على الطعام يبتلع 60% من ميزانية الأسر في مصر، حيث يشكل الفقراء 40% من إجمالي سكانها، فسندرك أنه عندما تتضاعف أسعار القمح، بسبب اتجاه مزيد من المزارعين الأميركيين لزراعة الذرة لإنتاج الوقود الحيوي، فإن ذلك سيكون أمراً مدمراً بالنسبة للمصريين الذين يعتمدون على القمح الأميركي لصناعة الخبز الذي يمثل عنصراً أساسيا في غذائهم اليومي.
لذلك كان طبيعياً أن تصبح اضطرابات الخبز من الوقائع المتكررة يومياً في مصر، وأن يقل الإقبال على شراء الدواجن من محل "العشري للدواجن" وغيره.
لكن محل بيع الخضروات القائم بجوار محل "العشري"، كان يشهد حركة نشطة. وعندما تحدثت مع سيدة محجبة كانت تنتقي حبات بطاطس من صندوق خشبي عن أسعار الخضروات والأشياء الأخرى، قالت لي إن الغلاء طال كل شيء، وإنه لم يعد بمقدورها هي وعائلتها الخروج للنزهة والترفيه، ولكن ذلك لا يقارن بما يعانيه غالبية الناس هنا".
إن ما يحدث في مصر الآن ناتج في رأيي عن الصفقة الأساسية بين النظام والشعب، والتي كانت تقوم على المعادلة التالية: "سنضمن لكم الطعام الرخيص والتعليم والرعاية الصحية، مقابل أن تبتعدوا عن السياسة"، وقد بدأت هذه الصفقة تتداعى حالياً. فرغم النمو الذي حققته الحكومة في السنوات الثلاث الأخيرة، إلا أن الأجور والمرتبات، والدعم الحكومي الذي يُقدم للناس، لم تعد قادرة على مواكبة الزيادة في أسعار المواد الغذائية والوقود. والجزء الوحيد المتبقي من هذه الصفقة هو "ابتعدوا عن السياسة"!
عندما خرجنا من حي "شبرا" واتجهنا إلى طريق الإسكندرية الصحراوي، وجدته غاصاً بالسيارات، لدرجة دفعتني للتساؤل: كيف تسنى لهذا العدد الهائل من المصريين اقتناء السيارات؟ لم تطل حيرتي، حيث سرعان ما عرفت أن الحكومة المصرية سوف تنفق 11 مليار دولار من أجل دعم الوقود وغاز الطهي هذا العام. وهذه الصفقة جيدة بلا شك بالنسبة للفقراء الذين لا يمتلكون سيارات، إذ يعني دعم الحكومة لأسعار الوقود، أنهم سيدفعون نقوداً أقل مقابل الاستفادة من وسائل النقل الجماعي.
وإذا ما أخذنا في اعتبارنا أن مصر ستنفق هذا العام 6 مليارات دولار على التعليم، و3 مليارات دولار على الرعاية الصحية، وهو ما يقل كثيراً عن الدعم المخصص للوقود، فسندرك حينها أن الحكومة تعاني من مأزق خطير. فقد كان من الواجب على تلك الحكومة أن تتخلص من هذا الدعم تدريجياً وعلى مراحل، عندما كانت أسعار الطعام والوقود أقل مما هي عليه الآن، أما وقد وصلت تلك الأسعار حالياً إلى عنان السماء، فإن إقدام الحكومة على إلغاء الدعم، سيكون بمثابة انتحار سياسي.
الحكومة لا تريد الانتحار بالطبع، بل اختارت قتل التعليم والرعاية الصحية بدلاً من ذلك.
وقد تحولت مصر اليوم إلى مصرين: فعلى امتداد طريق القاهرة -الإسكندرية الصحراوي، مررنا بمنتجعات، ومجمعات سكنية مغلقة ذات أبواب تضم قصوراً وفيللا فاخرة تحمل أسماء مثل "مون فالي" و"هايد بارك" و"بيفرلي هيلز"... بل دهشت عندما عرفت أن أحد تلك المجمعات السكنية يضم ملعب جولف يحتوي على 99 حفرة! وهذه المجمعات الفاخرة يسكنها رجال الأعمال الأثرياء، والمصريون المغتربون في دول الخليج، حيث أصبحت هاتان الفئتان جزءاً من طبقة رجال المال والأعمال المتعولمين.
ومن الأنباء الجيدة أن هناك عددا متزايدا من المصريين باتوا قادرين على العيش مثل الأميركيين. أما الأنباء السيئة فمنها أن عدداً من المصريين، يفوق ذلك بكثير، لم يعد بمقدورهم العيش مثل باقي المصريين. وهذا بالتأكيد ليس بالشيء الجيد، ليس فقط بالنسبة لهم، وإنما بالنسبة لنا أيضاً.
الاتحاد الإماراتية