صورة المرأة في الكتاب الأخضر تبدو مشوّشة، خالية من أي خصوصيّة. تتميّز عن الرجل لا لتحضر بصفاتها، بل بجنسها المجرد المفرغ من معانيه. هي مؤنث على نحو وصفي ممنوع من الأنوثة، وتعكس هذه النظرة المشوّشة موقف العقيد معمر القذافي من النساء على العموم. ورغم أنه محاط بكوكبة من الفاتنات اللواتي يتولّين مهمة حراسته، فإن جانبه العائلي يبقى متنازعاً بين امرأتين، صفيّة الزوجة ذات الملامح البدوية القوية، وعائشة البنت التي أسعدها لقب كلوديا شيفر
يبدو العقيد القذافي معجباً بالوسط النسائي الصحّي، فهو تزوّج بممرضة تعرّف إليها خلال وجوده في المستشفى لإجراء عملية إزالة الزائدة. وحين حضرت معه الى بيروت سنة 1972، أثار وجودها الكثير من الأسئلة بوصفها الزوجة الثانية للعقيد. وكان السؤال كيف يبرر رجل الثورة لنفسه تعدّد الزوجات، وهو الذي يدعو الى تحرير المرأة؟ وكان جوابه هو أن زواجه الأول هو نصف الدين، وقرار الزواج بصفيّة فركاش جاء ليكمل دينه.
وتجاوز شغف القذافي بالممرضات زوجته صفية فركاش، ابنة مدينة البيضاء، ليصل الى كييف. وتحدّثت برقيات «ويكيليكس» عن ممرّضة أوكرانية ذات موقع خاص في حاشيته، لذا، أرسل طائرة خاصة لإحضارها، عندما تخلّفت عن الوفد الرسمي في إحدى الزيارات الغربية. لكن غالينا كولوتنيتسكا قررت أن تترك العقيد، وسط موجة التخلّي التي عصفت بمحيطه وغادرت ليبيا الأسبوع الماضي.
تصفها برقية «ويكيليكس» بأنها «شقراء شبقة»، تسافر إلى كل الأماكن مع العقيد القذافي. وبحسب البرقية، التي يرجع تاريخها إلى أيلول 2009، قالت مصادر في طرابلس لدبلوماسيين أميركيين إن القذافي «يعتمد كثيراً على كولوتنيتسكا (38 عاماً)، وأنها وحدها تعرف روتينه اليومي». كذلك أوردت البرقية معلومات من مصادر مجهولة أن الزعيم الليبي والممرضة، وهي واحدة من حاشية مكونة من أربع أوكرانيات، على علاقة غرامية. وقالت ابنة الممرضة، لدى عودتها الى كييف، إن أمها قضت في ليبيا تسع سنوات، وكانت تعمل في البداية في مستشفى قبل الانتقال للعمل مع القذافي شخصياً. وأضافت إن «هناك نساءً أوكرانيات أخريات يعملن لديه كممرضات. وأمّي واحدة منهن. ولسبب ما، لا يثق القذافي بالنساء الليبيات في ما يتعلق بهذا الأمر».
لا يثق بالليبيات، لكنه محاط على الدوام بنساء قويات، جميلات ومسلحات يحرسنه في تنقلاته وسفراته، في مجتمع ليبي لا يندر فيه الرجال. لكن هذه المَظاهر شيءٌ وحالة المرأة الليبية شيء آخر. وضعها في جماهيرية العقيد يثير مزيجاً من الضحك والبكاء، وفي الوقت الذي كان يفترض فيه أن تحرر «الثورة» المرأة الليبية، من أثقال الماضي، لم تفعل شيئاً. ويبذل الزائر الأجنبي للمدن الكبيرة جهوداً كبيرة حتى يرى وجه امرأة ليبية، فالنساء هناك مُحجّبات ومُنقّبات. المرأة الليبية غائبة جداً. وليس أدل على ذلك من غياب ليبيات فاعلات في الحركية المجتمعية والثقافية. لقد استطاع النظام إفراغ ليبيا من نصف المجتمع. ولعل الكثيرين، وخصوصاً من المشتغلين في عالم السياحة في تونس والمغرب، يعرفون عن السياحة الجنسية لليبيين إلى هذين البلدين المغاربيين. والسؤال الذي تردد على الدوام هو: كيف يمكن ثورةً أن تنجح، إذا كان نصف المجتمع ساكناً وخارج الحركة؟
ظلت المرأة الليبية غائبة، حتى شاهد العالم في السنوات الأخيرة، بعض المظاهر التي لا علاقة لها بالثورة، ولا بأي مشروع طموح موجّه للمرأة الليبية. فقد قرر الزعيم الليبي أن يحيط نفسه بحارسات جميلات مسلحات. وهو مَشهد أثار حفيظة شرائح كبيرة في المجتمع الليبي القبلي المحافظ، إضافة إلى غضب رجال الدين، الذين رأوا في الأمر «فسقاً» ظاهراً. ولم ينعكس الأمرُ على المجتمع حتى يرى حرية أكثر في الشارع، وبقيت النظرة إلى الظاهرة كنوع من الفولكلور الذي يحرص العقيد على أن يحيط به نفسه. وإذا كانت الصحافة الغربية تتوقف عند نزوات القذافي الغريبة، وتجزل الأوصاف على الفارسات الجميلات والمسلحات، فإن الحقيقة في ليبيا ظلت شيئاً آخر، حيث المرأة الليبية لا تزال في عصر القبيلة بتجلياتها السلبية، وما قبل اكتشاف لعنة النفط.
يحرص الرئيس الليبي على التصريح بكثير من الأشياء، وربما يفكر أن الآخرين ليسوا في مستواه، أي أنه سابقٌ لعصره. ومن هنا فهو يدلي برأيه في كل صغيرة وكبيرة. ويُنظّر لكل شيء. وحين صرح أثناء زيارته الأخيره لصديقه رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلوسكوني بأن «النساء في العالم العربي مثل الأثاث الذي يمكن تغييره متى شاء الرجل العربي»، فالمؤكد أنه كان يتحدث عن المرأة الليبية، وإلا فإن الأمر إهانة للمرأة العربية ونضالاتها وإنجازاتها، بل استخفاف حتى بالجارة التونسية التي اكتسبت نساؤها حقوقاً قلّ نظيرها في العالم العربي والإسلامي، إذا جرى استثناء المرأة التركية. ويضيف الزعيم، بعد أكثر من أربعين سنة في السلطة، إن «العالم العربي في حاجة إلى ثورة نسوية ترتكز على ثورة ثقافية».
ولا شك أنه حين كان يتحدث عن الثورة النسائية كان يستحضر، في ذهنه، بعض ملامحها. ولعل من بين المظاهر ابنته عائشة. فقد أصبحت هذه الابنة (والبنت سرّ أبيها) الطموح، حديث ليبيا، ترافقها وسائل الإعلام الرسمية، ناقلة أنشطتها، في شبه ثورة في مجتمع أراد معمر القذافي أن يظل محافظاً وجاهلاً وطيّعاً. والدليل على حرص القذافي الشديد المحافظة على القبليّة هو تزويجُه ابنته عائشة بالشاب أحمد القذافي القحصي، الضابط في قوات الجيش الخاصة، والمنحدر من فرع القحوص، أي نفس فرع عائلة معمر القذافي في قبيلة القذاذفة.
عائشة، وهي جميلة وجذابة، بالفعل مدلّلة، على الرغم من زواجها التقليدي. وتحظى بمعاملة خاصة من أبيها، ربما لأنها البنت الوحيدة وسط حشد من الإخوان الطموحين. وقضت بعض الوقت في الدراسة في السوربون في باريس، وهو ما لم يتح لبنات بلدها، إلا من بعض عائلات الدبلوماسيين الليبيين، أي من رجالات النظام الأوفياء.
وشهدت ليبيا في السنوات الأخيرة، بصفة لافتة، صخباً أثارته عائشة، التي يبدو أنها تعلّمت من والدها فن التصريحات المثيرة والغريبة والمواقف غير المنتظرة. فقد انضمت إلى لجنة الدفاع عن الرئيس العراقي السابق صدّام حسين، وشبّهته بعمر المختار. ولعل آخر ظهور لها لا يخلو من تحدّ. فقد تحدثت وكالات الأنباء عن خروجها من ليبيا ورفض دولة مالطا السماح لطائرتها بالهبوط، لكن المشاهدين رأوها بالقرب من باب العزيزية، حصن القذافي المكين، وهي ترفع التحدي، كما والدها، وتصرّ على البقاء.
ظلت والدة عائشة في الظل حتى بدأ العالم في السنوات الأخيرة يسمع عن صفية فركاش، وهي الزوجة الثانية لمعمر القذافي، بعد زواج أول لم يدم طويلاً، لكنه أثمر ابناً بكراً، هو محمد، يقال إنه أقل سطوة من إخوته غير الأشقّاء. وبالفعل، فأمام زوج مريض بداء العظمة، من أمين القومية العربية، إلى قائد الثورة، إلى ملك ملوك أفريقيا، لم تبق لصفيّة أي مساحة لظهور صاخب. وبدا أنه يصعب على امرأة أنجبت ثمانية أبناء أن يكون لها دور غير عائلي. ولم تعد تتسرب الأخبار عنها إلا بعدما كبر الأبناء وشاخ الزوج وأصبحت حرة في الحركة وممارسة الأنشطة الاقتصادية المُدرَّة ذهباً. ولكن في بلد ليس فيه أي شركة خاصة، وحيث يتداخل الخاص بالعام، وحيث الكل تحت إشراف القذافي الذي يواصل الزعم أنه لا يحكم ليبيا، وأنه لو كانت له مسؤوليةٌ مَا لقَذَفَها في وجوه رعاياه، يصعب الخروج بقراءة واضحة.
تقول بعض المعلومات إن صفية فركاش تمتلك شركة خاصة للطيران «طيران البراق»، ويحكى أنها تحتكر عقود نقل الحجاج وغيرها من الأنشطة. ولكن الأمر يحتاج إلى كثير من التمحيص. ففي بلد تتحكم به عائلة كبيرة، يصعب التفريق بين ثروة هذا وذاك. فمؤسسة القذافي الخيرية، التي يديرها ابنه سيف الإسلام، تمتلك المليارات، ولا أحد يعرف من أين تأتي هذه الأموال ولا إلى أين تسير. ولعل أكبر دليل على استيلاء العائلة على ثروة ليبيا، هو ظهور سيف الإسلام في الأيام الأولى من الثورة، ليوجّه خطاباً مهيناً للشعب، علماً بأنه لا يحتل أي منصب رسمي يُخوّله الحديث في لحظة حرِجة. وقد سمع العالم أخيراًَ تصريحاً لسيف الإسلام يقول فيه، بعد موجة تجميد دولية وغربية لأموال العائلة الحاكمة، إنها أموال الشعب الليبي وأجياله المقبلة.
حديث الثروة عند هذا الابن وذاك يظل محض افتراض، والثابت أن كل ميزانية ليبيا، أي كل الريع النفطي، بين يدي زعيم «لا يحكم»، وبين أيدي أبناء زكّمت فضائحهم ونزواتهم في الخارج أنوف الكثيرين. لن تجد عائشة، شبيهة كلوديا شيفر والمستعيرة لشعرها الأشقر المركب، في هذه الظروف ما تقوله سوى «لقد أُكلنا يوم أُكِل الثورُ الأبيضُ». فلا يبدو أن الدروس التي تعلمتها في إطلاق النار من كلاشنيكوف كافية لإعادة الحكم إلى أبيها الهالك حتماً.
أما حارِسة المَعْبد، صفية فركاش، التي يقال إنها هي التي أقنعت العقيد القذافي بمصالحة الغرب وتسليم مختلف الأسلحة المحرّمة للأميركيين، لا عن قراءة سياسية حصيفة وواعية، بل خوفاً من أن يطال أبناءها نفسُ مصير ابنَي صدام وحفيده المقتولين في العراق. فهل هي من القوة بحيث تنجح، هذه المرة، وقبل فوات الأوان، في إقناع معمر القذافي بالرحيل وحقن دماء الشعب الليبي؟
يشبه القذافي في بعض المظاهر الفارس دونكيشوت، ولكن هذا الأخير كان يدافع عن قيم نبيلة في عصر ليس عصره، وبوسائل غير وسائل العصر. والذي يجمع بينهما هو عدم معرفة كليهما الزمن الذي يعيش فيه.
سفير برس _ بشير البكر