«الطفل وحده من يجرؤ على السؤال عن الحقيقة.. فهل يستطيع الإجابة عليها؟!»
ثلاثةٌ وستون عاماً قضيتها مهملةً على قارعة التاريخ.. ألوك حزناً يكفي لتصفر الدنيا.. ولم ينتبه أحدٌ لي وكأني كأس نبيذٍ مكسور في آخر ليلةٍ ماطرة.. ثلاثةٌ وستون عاماً قضيتها وأنا أرى أبنائي يمرون بي على عجالةٍ كل يوم.. يدخلون في منعطف الموت آخر الشارع دون رجعة.. ودمعتي تبقى مرتجفةً في عيوني تنتظر تعثر أحدهم قربها.. ربما حينها ينظر في عيوني لبرهةٍ ويدرك كم أنا حزينة.. وربما يترك لي فرصةً لأبوح له عن حزني.. ولأخبره أيضاً أن الموت ينتظره آخر الشارع.
أنا حزينة.. كل يومٍ منذ ثلاثةٍ وستين عاماً كنت أحزن لسببٍ مختلف. يومٌ جديد وحزنٌ جديد ولكن بطعمٍ واحد.. مذاق الحزن متشابه مهما اختلفت ألوانه.. الحزن مرٌّ كالعلقم [size=9][size=9][size=21]
اليوم أضعت هويتي. وهذا سبب كافي لكي أحزن.. ما عدت أعرف من أنا؟ نسيت لفظ
اسمي! هل أنا حقاً وطن كما أحلم..؟ أم لا زلت خيمةً كما أرى؟! فصيلٌ مسلحٌ
بالخطب والشعارات كما يصدح أبنائي على المنابر أم منظمةً إنسانية بجناحٍ
سياسيٍّ عاجز وآخر عسكري مكسور؟!!
- من أنا؟!
- أنتِ أمٌ ظلّت أسيرةً ثلاثةً وستين عاماً. يجيب طفلٌ أشعث يلهو بالحقيقة على قارعة الطريق.. يضيف:
- وأبناؤك يلهثون في الأرض ليثبتوا أنهم أبناؤك.. واحدٌ منهم فقط استطاع أن
يجلب شهادةً موقعةً من الأمم المتحدة بأنه رضع منك أربع رضعات مشبعات..
إنه أبو عرب المحتال! أخذك إلى بيته في المخيم، وبعد أن قضى منك وطره وضعك
في دكانه ليغيظ جيرانه..
- ألم يشتريني منه أحد؟
- لا، فقد كتب عليك عبارة: البضاعة للنكاية وليست للبيع.
- ما هو ديني..؟ مسلمةٌ أنا أم مسيحية أم يهودية؟ ما هو مذهبي.. سنية أم
شيعية أم كاثوليكية متعصبة؟ ما هو عرقي.. عربيةٌ أم إيرانية أم تركية؟
- أنتِ كل هذا ولا شيء منها أيضاً. يعتمد ذلك على السارق الذي يسرقك من
دكان أبو عرب. فالمسروق على دين سارقه كما ينص ميثاق اللصوص المتحدة.
- حين أكون مسلمة.. هل يسمح لي أن أزور الكعبة وأطوف مع الطائفين؟
- زيارة الأماكن المقدسة تحتاج إلى تأشيرة دخول. وأنتِ لا تملكين بعد جواز سفر.
- والفاتيكان؟! ألا يسمح لي بزيارة الفاتيكان بوصفي مسيحية؟!
- بصراحة.. الفاتيكان بأوروبا، وأنت كما تعلمين إرهابية، وفي أوروبا يمنع
تواجد الإرهابيين.. أعني لأغراض السياحة فأنت لن تخلعي نقابك هناك..
- هل دعوتي مستجابة كأولياء الله؟
- بالطبع لا، وإلا لكنت دعوت على أبو عرب واسترحت منذ زمن بعيد وأرحت الجميع أيضاً.
- هل حقاً الرب وعد اليهود بي؟!
- هكذا يقولون، ولكن على سبيل الإعارة فقط وليس إلى الأبد.. فاطمئني.
- لماذا لم أرجع حتى الآن إذاً؟
- لم تنته الإعارة بعد.. ثم إن الذي أعطاك لليهود كفيلٌ بإعادتك أرضاً
تحتضن الجميع..؟ فاخرجي أنت من هذا البازار سيء الصيت..؟ وعودي إلى دكان
أبو عرب ريثما يعثر اليهود على تاريخهم تحتك. المساكين إلى الآن لم يعثروا
إلاّ على قليل من الزيت وشتلة زعتر وكيس حليب فاسد كتب عليه: للاجئين فقط
ولا يصلح لتجارة أبو عرب.
- لماذا لم يسع أحدٌ من أبنائي إلى استعادتي؟
- صدقيني تركك هكذا أجدى لك.. فأبناؤك كلما حاولوا إعادتك للحظيرة كلما
ازددت تشظياً.. بات من الصعب أن يتعرف عليك أحد كوطن.. أعني كوطن يغني عن
التشرد..
- عن أي وطن تتحدث.. أشعر بأني جاريةٌ في بلاط كسرى؟!
- هذا لأن كسرى هو آخر من سرقك من دكان أبو عرب.. ألم أقل لك إن المسروق
على دين سارقه!؟ على العموم هناك نبوءة تقول إن مؤمناً سيعتق رقبتك ويدخل
بك الجنة، إنها مسألة وقت ريثما يحل المؤمنون قضيتهم التي تشغلهم، وحينها
لا بد وأن يرسلوا لكسرى مؤمناً يدق عنقه ويعتق رقبتك..
- بماذا يشغل المؤمنون أنفسهم؟
- بالقدم اليسرى المشاكسة التي تصر دائماً أن تسبق اليمنى عند الدخول إلى
الأماكن الطاهرة وتتخلف عنها عند الدخول إلى دورة المياه. على كلٍّ سمعت أن
القضية بعد نقاشٍ استمر 1400 عام قاربت على الحل. لقد قرر المؤمنون قطع
القدم اليسرى واستبدالها بقدمٍ يمنى.. بقي أن يوافق اليسار على الحل لتطرح
القضية على استفتاء ديمقراطي عام.
- وهل يؤمن المؤمنون بالديمقراطية؟!
- نعم، حصلت نكستهم هذه بعد الربيع..
- عن أي ربيع تتحدث؟!
- عن الربيع العربي. معك حق ألا تسمعي به.. فأنت الوحيدة التي سقطت أوراقها
في الربيع العربي.. ومر الصيف ولم تثمر.. وها نحن في الخريف نستعد لدخول
الشتاء وأنت لا زلت تقفين على قارعة التاريخ تمطرين طفولتي بأسئلتك
البلهاء.. ألا تشعرين بدنو الحطابين منك؟ ألا تسمعين أصوات فؤوسهم
وأناشيدهم الحماسية قبيل احتطابك؟
- أسمعهم.. لكن قل لي أرجوك من أنا؟!
- مع أن الاسم بات يخدش الحياء.. ومن يتلفظ به يتهم بمعاداة السامية.. لكن
لا ضير بأن تعرفي أنك فلسطين.. فأنا لا زلت طفلاً لا يعيره أحدٌ اهتمامه..
ولا منظمة اليونسكو نفسها حتى وإن أدخله أبو عرب عنوةً في منعطف آخر الشارع
لأجل حفنةٍ من الدولارات.
- إذاً أنا فلسطين.. مسرى النبي محمد (ص) أفلا أكون وصيته..؟!
- صدقيني لم يبق الكثير من وصايا النبي محمد.. لقد شارفت جميعاً على
الضياع.. ألم يوصي مرةً بأقباط مصر خيراً؟! أنظري للخير الذي يعم الأقباط
وستدركين بنفسك لماذا تجدين صعوبة بالتعرف على نفسك.. انظري إلى ابنتك
القدس.. انظري إلى الأقصى.
- إلى أين تمضي؟!
- حيث يمضي الجميع.. إلى منعطف آخر الشارع.. هكذا وحدي بدل أن يدفعني إلى
هناك أبو عرب ويقبض ثمني، أعني لقد مللت من اللهو بالحقيقة وآن لي أن
أنصرف.. حظاً طيباً مع الحطابين!
[/size]
ثلاثةٌ وستون عاماً قضيتها مهملةً على قارعة التاريخ.. ألوك حزناً يكفي لتصفر الدنيا.. ولم ينتبه أحدٌ لي وكأني كأس نبيذٍ مكسور في آخر ليلةٍ ماطرة.. ثلاثةٌ وستون عاماً قضيتها وأنا أرى أبنائي يمرون بي على عجالةٍ كل يوم.. يدخلون في منعطف الموت آخر الشارع دون رجعة.. ودمعتي تبقى مرتجفةً في عيوني تنتظر تعثر أحدهم قربها.. ربما حينها ينظر في عيوني لبرهةٍ ويدرك كم أنا حزينة.. وربما يترك لي فرصةً لأبوح له عن حزني.. ولأخبره أيضاً أن الموت ينتظره آخر الشارع.
أنا حزينة.. كل يومٍ منذ ثلاثةٍ وستين عاماً كنت أحزن لسببٍ مختلف. يومٌ جديد وحزنٌ جديد ولكن بطعمٍ واحد.. مذاق الحزن متشابه مهما اختلفت ألوانه.. الحزن مرٌّ كالعلقم [size=9][size=9][size=21]
اليوم أضعت هويتي. وهذا سبب كافي لكي أحزن.. ما عدت أعرف من أنا؟ نسيت لفظ
اسمي! هل أنا حقاً وطن كما أحلم..؟ أم لا زلت خيمةً كما أرى؟! فصيلٌ مسلحٌ
بالخطب والشعارات كما يصدح أبنائي على المنابر أم منظمةً إنسانية بجناحٍ
سياسيٍّ عاجز وآخر عسكري مكسور؟!!
- من أنا؟!
- أنتِ أمٌ ظلّت أسيرةً ثلاثةً وستين عاماً. يجيب طفلٌ أشعث يلهو بالحقيقة على قارعة الطريق.. يضيف:
- وأبناؤك يلهثون في الأرض ليثبتوا أنهم أبناؤك.. واحدٌ منهم فقط استطاع أن
يجلب شهادةً موقعةً من الأمم المتحدة بأنه رضع منك أربع رضعات مشبعات..
إنه أبو عرب المحتال! أخذك إلى بيته في المخيم، وبعد أن قضى منك وطره وضعك
في دكانه ليغيظ جيرانه..
- ألم يشتريني منه أحد؟
- لا، فقد كتب عليك عبارة: البضاعة للنكاية وليست للبيع.
- ما هو ديني..؟ مسلمةٌ أنا أم مسيحية أم يهودية؟ ما هو مذهبي.. سنية أم
شيعية أم كاثوليكية متعصبة؟ ما هو عرقي.. عربيةٌ أم إيرانية أم تركية؟
- أنتِ كل هذا ولا شيء منها أيضاً. يعتمد ذلك على السارق الذي يسرقك من
دكان أبو عرب. فالمسروق على دين سارقه كما ينص ميثاق اللصوص المتحدة.
- حين أكون مسلمة.. هل يسمح لي أن أزور الكعبة وأطوف مع الطائفين؟
- زيارة الأماكن المقدسة تحتاج إلى تأشيرة دخول. وأنتِ لا تملكين بعد جواز سفر.
- والفاتيكان؟! ألا يسمح لي بزيارة الفاتيكان بوصفي مسيحية؟!
- بصراحة.. الفاتيكان بأوروبا، وأنت كما تعلمين إرهابية، وفي أوروبا يمنع
تواجد الإرهابيين.. أعني لأغراض السياحة فأنت لن تخلعي نقابك هناك..
- هل دعوتي مستجابة كأولياء الله؟
- بالطبع لا، وإلا لكنت دعوت على أبو عرب واسترحت منذ زمن بعيد وأرحت الجميع أيضاً.
- هل حقاً الرب وعد اليهود بي؟!
- هكذا يقولون، ولكن على سبيل الإعارة فقط وليس إلى الأبد.. فاطمئني.
- لماذا لم أرجع حتى الآن إذاً؟
- لم تنته الإعارة بعد.. ثم إن الذي أعطاك لليهود كفيلٌ بإعادتك أرضاً
تحتضن الجميع..؟ فاخرجي أنت من هذا البازار سيء الصيت..؟ وعودي إلى دكان
أبو عرب ريثما يعثر اليهود على تاريخهم تحتك. المساكين إلى الآن لم يعثروا
إلاّ على قليل من الزيت وشتلة زعتر وكيس حليب فاسد كتب عليه: للاجئين فقط
ولا يصلح لتجارة أبو عرب.
- لماذا لم يسع أحدٌ من أبنائي إلى استعادتي؟
- صدقيني تركك هكذا أجدى لك.. فأبناؤك كلما حاولوا إعادتك للحظيرة كلما
ازددت تشظياً.. بات من الصعب أن يتعرف عليك أحد كوطن.. أعني كوطن يغني عن
التشرد..
- عن أي وطن تتحدث.. أشعر بأني جاريةٌ في بلاط كسرى؟!
- هذا لأن كسرى هو آخر من سرقك من دكان أبو عرب.. ألم أقل لك إن المسروق
على دين سارقه!؟ على العموم هناك نبوءة تقول إن مؤمناً سيعتق رقبتك ويدخل
بك الجنة، إنها مسألة وقت ريثما يحل المؤمنون قضيتهم التي تشغلهم، وحينها
لا بد وأن يرسلوا لكسرى مؤمناً يدق عنقه ويعتق رقبتك..
- بماذا يشغل المؤمنون أنفسهم؟
- بالقدم اليسرى المشاكسة التي تصر دائماً أن تسبق اليمنى عند الدخول إلى
الأماكن الطاهرة وتتخلف عنها عند الدخول إلى دورة المياه. على كلٍّ سمعت أن
القضية بعد نقاشٍ استمر 1400 عام قاربت على الحل. لقد قرر المؤمنون قطع
القدم اليسرى واستبدالها بقدمٍ يمنى.. بقي أن يوافق اليسار على الحل لتطرح
القضية على استفتاء ديمقراطي عام.
- وهل يؤمن المؤمنون بالديمقراطية؟!
- نعم، حصلت نكستهم هذه بعد الربيع..
- عن أي ربيع تتحدث؟!
- عن الربيع العربي. معك حق ألا تسمعي به.. فأنت الوحيدة التي سقطت أوراقها
في الربيع العربي.. ومر الصيف ولم تثمر.. وها نحن في الخريف نستعد لدخول
الشتاء وأنت لا زلت تقفين على قارعة التاريخ تمطرين طفولتي بأسئلتك
البلهاء.. ألا تشعرين بدنو الحطابين منك؟ ألا تسمعين أصوات فؤوسهم
وأناشيدهم الحماسية قبيل احتطابك؟
- أسمعهم.. لكن قل لي أرجوك من أنا؟!
- مع أن الاسم بات يخدش الحياء.. ومن يتلفظ به يتهم بمعاداة السامية.. لكن
لا ضير بأن تعرفي أنك فلسطين.. فأنا لا زلت طفلاً لا يعيره أحدٌ اهتمامه..
ولا منظمة اليونسكو نفسها حتى وإن أدخله أبو عرب عنوةً في منعطف آخر الشارع
لأجل حفنةٍ من الدولارات.
- إذاً أنا فلسطين.. مسرى النبي محمد (ص) أفلا أكون وصيته..؟!
- صدقيني لم يبق الكثير من وصايا النبي محمد.. لقد شارفت جميعاً على
الضياع.. ألم يوصي مرةً بأقباط مصر خيراً؟! أنظري للخير الذي يعم الأقباط
وستدركين بنفسك لماذا تجدين صعوبة بالتعرف على نفسك.. انظري إلى ابنتك
القدس.. انظري إلى الأقصى.
- إلى أين تمضي؟!
- حيث يمضي الجميع.. إلى منعطف آخر الشارع.. هكذا وحدي بدل أن يدفعني إلى
هناك أبو عرب ويقبض ثمني، أعني لقد مللت من اللهو بالحقيقة وآن لي أن
أنصرف.. حظاً طيباً مع الحطابين!
[/size]
[size=21]
(دي برس - ياسر قشلق )
[/size]
[/size](دي برس - ياسر قشلق )
[/size]