الشام .. ذات يوم ذات انفجار ..
يوم بين سكانها وكيف تستمر الحياة :
الحصيلة الأولية تقدّر ب 66 شهيداً".. هذه صرخة دمشق هذا الصباح، وصباح التفجير ليس كأي صباح.كلّ من في الطريق بين حرستا والعباسيين متجهّم الوجه، مصدوم. السائقون فاقدو التركيز في القيادة. والركاب مخطئون في معرفة الطريق إلى حيث يذهبون، بعضهم نسي أساساً أية وجهة يقصد، فأينما يمّمتَ في دمشق .. الموتُ ينتظرك في كل مكان.العيون المترقبة في الشعلان مثلاً توحي بشيء من القلق. الكلّ يشتبه بالكلّ. يكفي أن يبادلك أحد المارة نظرة ما حتى تشعران كلاكما برعب قاتل، والحل هو الإسراع في المشي.
"عملية التفجير انتحارية".. إنه الخبر الأخير حتى اللحظة .. وقرب مطعم (بوز الجدي) الشهير في الشعلان النظرات مليئة بالترقب والوجس، أين هو هذا الانتحاري الذي يرابط هُنا أو هناك بانتظار زر الانطلاق إلى حيث تنتظره "حور العين"، بحسب تعبير أحد الموجودين. طرقات مقطوعة، وأُخرى قد تم تحويلها .. هكذا هي شوارع دمشق صباح الانفجار. وعنصرا أمن يقفان قرب مديرية الجمارك يشيران بسلاحهما إلى السيارات أن تغير طريقها إلى شارع آخر، أحدهما يمسك بسلاحه وابتسامة ساخرة لا تفارق وجهه .. بدت هازئة من الاستهداف الدائم له ولزملائه بانفجارات واغتيالات .. دون أن يوحي بأي خوف من موت يحوم حوله ورفاقه .. "الحصيلة الآن 29شهيداً في مشفى المجتهد، و11 شهيداً في مشفى الشرطة و8 أكياس أشلاء بالإضافة إلى 100 جريح".. الأخبار الكارثية الآتية من مكان الانفجار في القزاز تجعل من يسير في شارع بغداد يشعر أنه في عالم آخر، فالشارع المشهور بازدحامه حدّ الإعياء اليوم خالٍ من السيارات والمارة بشكل يثير العجب والصدمة.
شيرين، طبيبة في المجتهد، تصف حالة المستشفى المليء بالجثث والجرحى إذ لم يعد لغرفة الإسعاف دورها المعتاد بعدما تحوّل كل ما في المستشفى إلى غرف عمليات يغرق فيها الأطباء في عملهم وفي الدماء. "هذا عملنا ونحن معتادون عليه، ولكن رائحة الدم اليوم كثيفة بطريقة تجعل الموت هو السائد في هواء المستشفى." تقول الطبيبة: "أهالي الشهداء يأتون متعلقين بخيط أمل أن يكون أبناؤهم بين الجرحى والصراخ والبكاء يعمّ كل الأرجاء عندما يعلم أفراد كل عائلة أن ابنهم بين الضحايا أو أن أشلاءه أتت في أحد الأكياس". تروي شيرين رؤيتها لأحد عناصر الجيش يجلس قرب باب الإسعاف ينتظر خبرا ًعن أحد زملائه المصابين في الانفجار، فتبادلت معه نظرات لم تفهمها،تصفها قائلة: "رأيتُ في عينيه نظرات عتب وكأنه يقول أنتم تقتلوننا، فحاولت الهرب من عينيه ومن شعوري بالذنب دون أن أعرف سبباً لذلك". كلام شيرين التي لا موقف سياسي لديها سواء كان مؤيداً أو معارضاً، يختلف عن الاتهامات التي توسعها المحطات المناوئة للنظام السوري والتي تعتبر أن الجيش يقتل الشعب. تفيض عيني الطبيبة بالدموع وتشهق بالبكاء قائلة: "وددت الاعتذار من بدلته العسكرية ومن عينيه العاتبتين. وددتُ أن أقول له بطفولة: لا علاقة لي بمن يفعل بكم هذا" وتضيف قائلة: "لعله لم يفهم نظرتي المتجمدة من مشاهد الأشلاء هذا اليوم. لعلّه ظنّ أني لا أبالي بمن يُقتل من زملائه ومن المدنيين. بعد لحظات عندما عدتُ إليه لأطمئنه على زميله، لم أجده في مكانه ولم أتمكن من قول أية كلمة له".
"هي الحرية اللي بدكن ياها؟" جملةسيطرت على نهار دمشق بعدما كرر مواطنون ترديدها طوال الوقت على الشاشات السورية الرسمية، ما زاد الطين بلّة ولاسيما أن هذه العبارة تثير حفيظة المواطنين بجميع أطيافهم وليس سخرية المعارضة فحسب، الأمر الذي جعل إياد، صاحب محل تجاري في أبو رمانة، يقول: "إلى متى؟ إلى متى هذه النمطية يا إعلامنا؟". "55 شهيداً" إنهاآخر حصيلة .. يأتي ليل دمشق الذي لا يُقاوم سحره .. فلا يمكن أن يكون حزيناً في باب توما رغم كل الأسى الذي واجه السوريين اليوم..في باب توما يتحدى أبناء الحياة الموت اليومي .. يواجهونه محاولين رسم ابتسامة على وجوههم المتعبة، ومع أن الابتسامة حزينة إلا إنها موجودة لدى قومٍ يعرفون قيمتها، هكذايقول رامي أحد الساهرين في المطعم القديم. في الطريق إلى ساحة الشهبندر يحاول رامي، محامٍ شاب، تجاوز الشوارع الرئيسية ومراكز الفروع الأمنية والشرطة ومؤسسات الدولة قائلاً بسخرية: "علينا الهرب من جميع الشوارع فلعلّ الانتحاري ينتظرنا هُنا.. أو هُناك". السوريون الذين عاشوا أربعين عاماً خارج نشرات الأخبار.. واقتصر إعلامهم على نشرات أخبارتقليدية لا يستمعون إليها أصلاً، تحوّلت أخبار الموت منذ أكثر من سنة إلى نشرة دائمة في أخبارهم بل أصبحوا هم أنفسهم حديث كل النشرات على حين غرّة.. إلا إنهم كباقي الشعوب الحيّة سرعان ما نفضوا آثار الخراب عن صدر عاصمتهم ليلا . وكأني بهم قد اصبحوا معتادين على التعايش كما شعب مصر مع الموت ومع القبور(يعيش ملايين المصريين في المقابر) إلا ان الشعب السوري تعايش بطريقة عكسية فقد لبس كثيرون منهم ردا على التفجير أفخر ما عندهم وطفقوا خارجين إلى سهراتهم . في المطعم الشهير في ساحة الشهبندر حيث تجلس نخب ثقافية وفنية واجتماعية .. لا يسمع إلا النقاشات السياسية وأخبار الانفجارات وتوقعات التصعيد العنيف خلال الأيام القادمة، وتجد الجميع يجلس مع أصدقائه وأحبائه وكأن هذه السهرة هي الأخيرة.كل ما حولك يشي بالموت والحزن، إلا إن السوريين اكتشفوا أن على أرضهم ما يستحق الحياة.. جملة لمحمود درويش قالها رامي فاختصرت كل شيء: "رائحة الخبز في الفجر .. تستحق الحياة".
هكذا مضى يوم دمشق ذات انفجار .. حيث بدا قاسيون مثل أبنائه يقف مضيئاً بحزن .. يرقب ليل المدينة الجريحة.
مرح ماشي - عربي برس - دمشق