بقلم المحامي علاء السيد
ما أن سمعت بنبأ إلغاء رسم الفيزا بين سورية وتركية، حتى عقدت العزم على الاكتفاء من تمضية العيد كالعادة في البدروسية ورأس البسيط، وتوجهت أنا وأهل بيتي وأولادي الأربعة باتجاه باب الهوى.
من بعيد رأيت بوابتين مخصصتين لدخول رتلين من السيارات. في ظل الغياب الكامل لرجال الشرطة الذين يفترض بهم تنظيم السير، فسارعت مع أقراني للـ “مطاحشة“، وتشكيل ما يزيد على عشرة ارتال عرضية سدت الطريق أمام هاتين البوابتين الضيقتين، وبدأنا جميعا بممارسة الطقس اليومي بالمزاحمة و”المطاحشة“ والتدفيش.
ازداد تو تر الأجواء وارتفع الصياح والسباب، واستطعت كالعادة بفهلويتي المعهودة تجاوز دور غيري، والنفاذ إلى الداخل وتجاوزت رجال الحدود السوريين المحافظين على تقاليدهم التي بات من الممل إعادة الحديث عنها.
انطلقت باتجاه الجانب الثاني من الحدود، فوجئت ببوابة واحدة معدة لدخول السيارات في رتل واحد فقط، وفوجئت أن ذات السيارات التي كانت تتزاحم قبل قليل، تقف بانتظام برتل واحد طوله مئات الأمتار دون أي خلل.
وبما أن “الفهلوة“ هي طريقتنا المعتادة في الخروج من المآزق، خرجت عن الدور وقمت بتشكيل رتل ثان، ففوجئت برجال الشرطة والجمارك الأجانب المنتشرين بأعداد كبيرة على طول الطريق، والذين قاموا بتنبيهي، وإعادتي إلى الطريق القويم.
بعدما عبرنا جميعا بيسر وسهولة، وبسبب النظام الشديد... بدأت اشعر بالغربة.
وصلت الفندق، فإذ به كالقصر، “قطافة“ ونظافة وأبهة وفخامة، واستلمت غرفتنا المهيبة المجهزة بكل شيء.
بدأت فورا بطلب المزيد من البشاكير والمخدات والشراشف وعلب الشامبو والصابون، وكل شيء يمكن أن احصل عليه مجانا، فالأمر مكسب وأنا دافع مصاري.
شاهدت مسبحا ضخما من نافذة الغرفة، وتمسكا بتراثنا التليد ارتديت اللباس التقليدي (الجلابية والجاروخ أبو إصبع)، وطلبت من زوجتي أن ترتدي كل ما لديها من ثياب تمسكا بالحشمة، ونزلنا مع الأولاد إلى المسبح.
لم افهم لماذا ينظر لي الجميع باستغراب وأنا ارتدي “جلابيتي“، بل كانوا ينظرون باستغراب أيضا إلى احد أقراني الذي ارتدى طقمه الفرنجي الكامل (الجاكيت والقميص والبنطلون) ونزل إلى ضفة المسبح أيضا.
طلبت من أهل بيتي (زوجتي) - وهي مثقلة بما ترتدي - أن تجلس في منطقة بعيدة متطرفة كي لا تنكشف على احد، وسارعت أنا للقيام بجولة أشاهد فيها نساءهم ترتدين لباس البحر، وأبحلق فيهن براحتي... ما دمت مطمئنا إلى جلوس زوجتي في منطقة متطرفة لا يستطيع رجالهم رؤيتها فيه.
سارع الأولاد إلى “الزحليطات المائية“ التي تصعد إليها بدرج ثم تنحدر عليها بسرعة شديدة إلى المسبح، ولكن أولادي الذين ورثوا “فهلويتي“ وبتشجيع مني، أدركوا أن الصعود على “الزحليطة“ مباشرة بعكس ا تجاه النازلين بسرعة عليها، أمتع من الصعود على الدرج والنزول من أعلى “الزحليطة“.
لم افهم لماذا يصيح جميع النازلين استهجانا لما يفعل أولادي، ولم افهم لماذا يصفر المشرف على المسبح بصفارته بهذه الشدة.
احترت كيف سيسبح ابني الصغير وهو يرتدي (الحفاض) فكلما وضعته في الماء يمتلئ حفاضه بالماء، وأخيرا قررت أن يسبح كما ولدته أمه فأنا من أنصار العودة إلى أمنا الطبيعة. لم افهم لماذا خرج جميع من حولي من الماء.
سارعت إلى المطعم عندما سمعت بالوجبة المفتوحة المجانية، وصرت احمل أكواما من الأطعمة في صحون فوق بعضها البعض، وأضعها على طاولتي أمام أسرتي.
عندما سألتني زوجتي ماذا سنفعل بكل هذه الكميات قلت لها: “كلي أقصى ما تستطيعين، مكسب يا عزيزتي، نحنا قاعدين بمصراتنا“.
فوجئت بمن حولي يجلب صحنا واحدا فقط، فيه نوع واحد فقط من الطعام يكفي شخصا واحدا طبيعيا.
طلبت من الأولاد أن يضعوا في جيوبهم قدر ما يستطيعون من معلبات الزبدة والمربى والعسل، فربما نجوع بعدها (على الرغم من وجود ثلاث وجبات يومية مجانية كاملة).
قمنا والأكل كما هو لم نأكل منه سوى سعة بطوننا، ليحمله الجرسون ويرميه في القمامة (معلش العين كمان بدها تشبع).
تساقطت علب الزبدة من جيوب ابني الصغير ودعس فوقها فانفجرت العلب بما فيها على الأرض، حملته بسرعة كي لا يرانا مسؤلوا الفندق، وأنا انوي زيادة جرعات “الفهلوة“ لديه كي يضع العلب عميقا في جيوبه، ولا يقع في أخطاء كهذه في المرة القادمة. على الرغم من بقاء الزبدة على الأرض وخطورة أن يتزحلق بسببها من يأتي خلفنا (ليست مشكلتي).
آن أوان السيجارة المعتادة بعد طعام الغداء، طلبت منفضة السجائر، فقالوا لي: لا يوجد أي منفضة في الفندق، فالتدخين ممنوع منعا باتا داخل مبنى الفندق كا ملا ، ولا يوجد أبدا من يدخن فيه - بعد صدور قانون يمنع التدخين في الأماكن العامة – وعلى من يرغب بالتدخين الذهاب للمكان المخصص لذلك في الخارج (أمام مدخل الفندق).
شاهدت المكان الأنيق المخصص لذلك، وقد جلس فيه البعض بهدوء، يدخنون وأمامهم منافض سجائرهم، فلم يعجبني أن اخرج من الفندق كلما رغبت بالتدخين، وشعرت انه اعتداء صارخ على حريتي الشخصية.
و بـ “فهلويتي“ المعروفة صعدت إلى الطابق الأخير في الفندق، لأشاهد مجموعة من أقراني - يماثلونني فهلوية - يزدحمون وقوفا في ممر متطرف بين غرف الطابق الأخير، يدخنون ويرمون أعقاب السجائر على الموكيت... فلم اشعر بالغربة حينها.
نزلت بعدها إلى المركز الصحي للفندق ودخلت “ الساونا“، وما أن جلست قليلا حتى انقطعت الكهرباء للحظة - لم تتكرر بعدها - ثرت صائحا بهم: كيف تنقطع الكهرباء في فندق كهذا، فاعتذر المشرف بشدة وهمس بأذني “حتى لا تشعر بالغربة“.
نزل أولادي “الحلوين“ إلى قسم الألعاب الكهربائية في الفندق، وظلوا يضغطون الأزرار باستمرار وبشدة وبعنف، وأنا بجانبهم أشجعهم، حتى توقفت الألعاب تماما عن العمل.
في المساء ، شعرت بالحنين لجلساتي المفضلة على اوتوستراد المحلق واشتهت نفسي “الاركيلة“، سارعت إلى سيارتي، أخرجت شنطة “الاركيلة“ والغاز الصغير وبدأت بإشعال الفحم في الشارع، جلست على الرصيف أمام المدخل الرئيسي الفندق وأمامي حدائقه الجميلة، استمتع بالمعسل وأراقب الداخلين والخارجين، فأحسست بذات الشعور على شارع المحلق.
آن أوان الرحيل فطلبت من زوجتي أن تجمع كل ما يمكن حمله من غرفة الفندق، فـ ”نحنا دافعين مصاري وبدنا نطالعها“، جمعنا كل ما يمكن حمله. ولكنني عجزت عن انتزاع “لمبات“ الإضاءة المثبتة بطريقة لعينة لم تنجح معها “فهلويتي“.
وقفنا أمام المصعد، وضغطت على الزر الذي أضاء إيذانا بنزول المصعد الذي تأخر قليلا لوجود العديد من المغادرين.
و”بفهلويتي“ أدركت انه كلما ضغطت على الزر الكهربائي للمصعد باستمرار وشدة كلما نزل بشكل أسرع.
ويبدو أن أقراني - المغادرين معي - من ساكني مختلف الطوابق يعرفون هذه المعلومة أيضا، فقمنا بها جميعا، إلى أن توقف المصعد تماما عن العمل واحتاج للصيانة، لا بأس فنحن في الطابق الأول، والنزول سهل.
غادرنا الفندق مودعين، غير مأسوف علينا.
كتبت هذه المشاهدات مما رأيته وسمعته في رحلتي تلك- ولئلا يتهمني احد بالاستعلاء - ربما فعلت أنا أيضا بعضٌ مما ذكرت.
كنت أشعر بالأسف والخجل وأسأل نفسي باستمرار:
لماذا نمارس هذه الهمجية، ولماذا ابتعدنا عن التصرفات الحضارية ونحن من بلد عريق تجذرت فيه الحضارة والأخلاق.؟
لماذا نفعل ما نفعل على الرغم من أن عقيدتنا الدينية تنهانا عن جميع ما شاهدته من ممارسات.؟
ما الذي جرى حتى تحولنا إلى مجتمع مخرب لا يحترم القانون، ينظف داخل بيته ويرمي بأوساخه في كل مكان.؟
هل هناك إمكانية أن نعود إلى أخلاقنا وحضارتنا في المدى المنظور. وما هي الوسيلة لذلك.؟
ربما تكون الشدة في تطبيق القوانين هي الحل فقد التزم الجميع بارتداء حزام الأمان فور صدور قانون السير الجديد ومخالفة من لا يضعه (أو مضاعفة التسعيرة الفورية لرجال الشرطة).
عندما صدر قانون (منع التدخين في الأماكن العامة) لدينا لم يكترث به احد، صدر قانون (النظافة العامة) منذ سنوات، وهو قانون إذا طبق صارت بلادنا أنظف من أنظف بلاد العالم، لكنه لم يطبق أبدا.
هل تكفي الشدة في تطبيق القانون لعودة الأخلاق والحضارة، أم أن الأمر يحتاج إلى غير ذلك الكثير.