عزيز نيسين
أشياء أمريكية في مزاد علني
أتى لزيارتي صباح أمس وقال:
- ألم تنهض من فراشك بعد.
- الطقس بارد، ولا توجد لدي مدفأة..
- اشرب شاياً ساخناً.
- قطعوا الغاز عني، لا سكر ولا شاي حتى.
- مفهوم، مفهوم.. يبدو أنك لن تصبح رجلاً. أتريد أن أجعلك رجلاً غنياً
في لحظة واحدة.
- رجاءً اذهب إلى شغلك، لقد وصلت الأمور إلى أرنبة أنفي...
- إني جاد في ما أقول، خلال عشرة أيام سأجعلك غنياً، ادعُ لي.
بعد الآن أستطيع الحديث إليكم بهدوء. اقتنعت بما قاله صديقي كمال، ذهبنا
إلى بيت أبي، وبحجة ما أخرجنا أثاث البيت إلى الطريق، أحضر كمال سيارة
شاحنة، حملنا جميع ما لدى أبي من أثاث وأشياء قديمة ونقلناها إلى بيتنا.
حزن أبي كثيراً عندما عاد إلى البيت ووجده فارغاً، ووقع في حيرة ظناً منه
أن أحدهم سرق محتويات البيت. ومن الفاعل يا ترى؟..
في اليوم الثاني نشرت الصحف الإعلان الذي سدد قيمته كمال:
"مزاد علني لبيع أشياء خبير أمريكي"
سيبدأ مزاد علني لبيع أشياء تخص الخبير الأمريكي العريف السيد (ارنولد باي)
النادرة النفيسة، وذلك في 31 تشرين الثاني من عام 1954 الساعة العاشرة
...في...
الفوضى التي دبت في بيتي ذلك اليوم لم أشاهد لها مثيلاً في المسرح أو
السينما ولا في الحفلات الموسيقية، سيارات خاصة ملأت حارتنا، لم يعد يتسع
بيتي لهذا العدد الهائل والحارة أيضاً كذلك، أية سيدات وأي رجال!!.
الفراء الذي كانت ترتديه إحدى السيدات كان أغلى من كل محتويات بيتي بما فيه
أنا، لم أكن أتوقع ذلك.
قلت متأففاً:
- لقد فضحت.
- هيا انتظر لترى.
بدأ المزاد العلني. وكمال في الوسط يدير المزاد، راح يصرخ:
- كنبتان وستة قلاطق ممهورة باسم كوهلر.
وفي الحقيقة لم نجلب من بيت أبي قلاطق بل أشياء مكسرة.
تابع كمال نداءه:
- سيداتي ، سادتي، من يود غرفة جلوس ممهورة باسم كوهلر.. غرفة نفيسة
للخبير الأمريكي العريف السيد (أرنولد باي).. خمسة عشر ألفاً.
ظننت أن القهقهة ستملأ المكان وإذا بصوت حاد يسمع من بعيد:
- خمسة عشر ألفاً وخمسمئة ليرة.
- ستة عشرة ألفاً.
- سبعة عشر.
- عشرون.
رمقني كمال بنظرة جانبية.
- يالله، يا سادة، هل من مزيد؟، عشرون ألف ليرة، أشياء خبير أمريكي،
"على أونه، على دوي"، بعت بهذا المبلغ، ألف مبروك.
هكذا بيعت قلاطقنا القديمة بعشرين ألف ليرة، ولو عرضت على تاجر الأشياء
المستعملة لما اشتراها بعشرين ليرة، تم شراؤها منذ أيام السلطان رشاد، رقعة
فوق رقعة، ومسماراً بجانب مسمار، لا يمكن استعمالها بتاتاً.
رفع كمال صوته:
- غرفة طعام (السرجنت أرنولد) الفنية، هل هنالك من مزيد على هذه الغرفة
الأمريكية الفريدة؟. لنبدأ بتسعة آلاف...
- عشرة آلاف..
- عندي بأحد عشر ألف ليرة.
بدأ المزاد على طرابيزة قهوة صغيرة، إحدى قوائمها مكسورة وحصيرتين وكرسي من
الخيزران وثلاثة كراسي خشبية وراح يتزايد الرقم ألفاً بعد ألف، دخلت سيدة
أنيقة ومترفعة ومتبرجة تلتقط انفاسها تسأل عن طقم الجلوس الذي بيع قبل
قليل:
- قالوا إنه قد بيع.
- واه.. واه!! خسارة، من اشتراها؟.
- السيد سانا.
- اشترتها كي تغيظني، لذلك سأشتري هذه الغرفة ولتنفجر.
وفجأة راح أحدهم يصرخ وكأنه يعلن عن خطر ما:
- بعشرين ألفاً!.
زادت عليه السيدة:
- عندي بواحد وعشرين ألف ليرة.
قال لها الرجل الذي كان بجانبها:
- لا يساوي هذا المبلغ يا زوجتي العزيزة.
- ماذا؟.. لا يساوي؟.. أمان! يا غالب لا يوجد لديك ذرة من الذوق.. هذه
الأشياء التي استعملها خبير أمريكي.. خمسة وعشرون:
- بخمسة وعشرين.
على ما يبدو أن قلب كمال قد لان لذلك حاول إيقاف المزاد وقال:
- بخمسة وعشرين سأبييييع.. بعت.
وإلا كان سيتابع المزاد لبيع الطربيزة والكراسي المكسرة إلى مئة ألف ليرة.
- سيداتي وسادتي ضوء عمودي "أولتراماتيك"!.. بألف!...
لم تكن هذه الأشياء من بين أغراضنا، لكن كمال قام بإضافة "سوكة" مصباح
كهربائي على عكاز والدي ، وباعها وكأنها "أولتراماتيك" بثلاثة آلاف ليرة. .
أما السيدة التي اشترت هذه "الأولترامتيك" فقالت متفاخرة:
- إنها ستناسب الصالون في بيتنا.
الرذالة الحقيقية بدأت عندما عرض فرشنا، أدرت رأسي نحو الجدار عندما رأيت
القطن المتسخ البارز من شقوق القماش، تصوروا أنه عرض الفرش المتسخة للبيع.
- سيداتي سادتي!.. فرش المستر (أرنولد) معروضة للبيع.. فرش هوليود
الفاخرة، مع وسائد صغيرة.. بألفين وخمسمئة ليرة..
- ثلاثة آلاف
باعها بخمسة آلاف ليرة. بعدما باع جميع الأشياء التي أحضرناها من بيت أبي،
بدأ بالأشياء المهملة والمكسرة التي كانت في بيتنا، ليست هذه الأشياء وحسب،
بل باع ملابسنا أيضاً، لم يبق لدينا أي شيء، ومع ذلك لم يخل البيت، وفي
لحظة ما اقترب مني كمال، وأمسكني من يدي ليسحبني إلى الحمام ويقول لي:
- هيا اخلع!..
- وماذا؟.
هيا اخلع بسرعة سأبيع ملابسك.، والداخلي أيضاً. ستشتري الملابس الجديدة
فيما بعد.
خلعت كل ما يسترني حتى أصبحت كما ولدتني أمي!!، وخرج كمال وأقفل علي باب
الحمام.
كنت أسمع صوته:
سيداتي سادتي المحترمين بنطال الخبير الأمريكي العريف (أرنولد) من القماش
"لاستكوتن" مئة في المئة ركبتاه مزينتان بقطع من "الغرنيتور".. بخمسمائة..
- ستمائه.
- سبعمائة.
بعد ذلك أتى الدور على ملابس الداخلية:
كيلوت العريف أرنولد.. مستعمل لمرتين فقط. بخمسين ليرة.
سمعت صوتاً نسائياً:
- حقيقة لا يساوي هذا المبلغ، لكن لو استعمله خمس عشرة مرة لدفعت هذا
المبلغ عن طيب خاطر.
- سيداتي وسادتي.. مناديل المستر آرنولد باي الفاخرة.. بثلاث ليرات.
- بخمس ليرات.
- بسبع.
- بعشر ليرات أبيع.. بعت. انتهى المزاد أيها السيدات والسادة..
سمعت صوت ضجيج وحركة غير طبيعية، كل واحد يأخذ أغراضه لينقلها. وبعد صمت
دام نصف ساعة، سمعت صوت كمال من خلف الباب:
- ربحنا مئة وسبعة وأربعين ألف ليرة.
- حياك الله يا كمال! – صرخت بأعلى صوت- افتح الباب بسرعة، لقد تجمدت من
البرد.
- انتظر قليلاً سأذهب لأشتري لك ملابس جديدة..
خرج كمال، بعد ساعة، وبعد ساعتين رحت ارتجف من البرد.
رحت أنط ويداي بين فخذي، غطى الظلام المدينة، ولم يعد كمال.
منذ أيام وأنا في الحمام سأتجمد من البرد، لو كسرت الباب وخرجت لألقي القبض
علي متهماً بالجنون، وبذلك سأهان، ولو كان موقد الغاز مفتوحاً لانتحرت.
هذه القصة أكتبها من الحمام، لكن عجباً، ماذا أصاب كمال؟ هل صدمه الباص أم
الترامواي أم أصابه مكروه؟ الحقيقة أقول إنه صديق جيد.
أشياء أمريكية في مزاد علني
أتى لزيارتي صباح أمس وقال:
- ألم تنهض من فراشك بعد.
- الطقس بارد، ولا توجد لدي مدفأة..
- اشرب شاياً ساخناً.
- قطعوا الغاز عني، لا سكر ولا شاي حتى.
- مفهوم، مفهوم.. يبدو أنك لن تصبح رجلاً. أتريد أن أجعلك رجلاً غنياً
في لحظة واحدة.
- رجاءً اذهب إلى شغلك، لقد وصلت الأمور إلى أرنبة أنفي...
- إني جاد في ما أقول، خلال عشرة أيام سأجعلك غنياً، ادعُ لي.
بعد الآن أستطيع الحديث إليكم بهدوء. اقتنعت بما قاله صديقي كمال، ذهبنا
إلى بيت أبي، وبحجة ما أخرجنا أثاث البيت إلى الطريق، أحضر كمال سيارة
شاحنة، حملنا جميع ما لدى أبي من أثاث وأشياء قديمة ونقلناها إلى بيتنا.
حزن أبي كثيراً عندما عاد إلى البيت ووجده فارغاً، ووقع في حيرة ظناً منه
أن أحدهم سرق محتويات البيت. ومن الفاعل يا ترى؟..
في اليوم الثاني نشرت الصحف الإعلان الذي سدد قيمته كمال:
"مزاد علني لبيع أشياء خبير أمريكي"
سيبدأ مزاد علني لبيع أشياء تخص الخبير الأمريكي العريف السيد (ارنولد باي)
النادرة النفيسة، وذلك في 31 تشرين الثاني من عام 1954 الساعة العاشرة
...في...
الفوضى التي دبت في بيتي ذلك اليوم لم أشاهد لها مثيلاً في المسرح أو
السينما ولا في الحفلات الموسيقية، سيارات خاصة ملأت حارتنا، لم يعد يتسع
بيتي لهذا العدد الهائل والحارة أيضاً كذلك، أية سيدات وأي رجال!!.
الفراء الذي كانت ترتديه إحدى السيدات كان أغلى من كل محتويات بيتي بما فيه
أنا، لم أكن أتوقع ذلك.
قلت متأففاً:
- لقد فضحت.
- هيا انتظر لترى.
بدأ المزاد العلني. وكمال في الوسط يدير المزاد، راح يصرخ:
- كنبتان وستة قلاطق ممهورة باسم كوهلر.
وفي الحقيقة لم نجلب من بيت أبي قلاطق بل أشياء مكسرة.
تابع كمال نداءه:
- سيداتي ، سادتي، من يود غرفة جلوس ممهورة باسم كوهلر.. غرفة نفيسة
للخبير الأمريكي العريف السيد (أرنولد باي).. خمسة عشر ألفاً.
ظننت أن القهقهة ستملأ المكان وإذا بصوت حاد يسمع من بعيد:
- خمسة عشر ألفاً وخمسمئة ليرة.
- ستة عشرة ألفاً.
- سبعة عشر.
- عشرون.
رمقني كمال بنظرة جانبية.
- يالله، يا سادة، هل من مزيد؟، عشرون ألف ليرة، أشياء خبير أمريكي،
"على أونه، على دوي"، بعت بهذا المبلغ، ألف مبروك.
هكذا بيعت قلاطقنا القديمة بعشرين ألف ليرة، ولو عرضت على تاجر الأشياء
المستعملة لما اشتراها بعشرين ليرة، تم شراؤها منذ أيام السلطان رشاد، رقعة
فوق رقعة، ومسماراً بجانب مسمار، لا يمكن استعمالها بتاتاً.
رفع كمال صوته:
- غرفة طعام (السرجنت أرنولد) الفنية، هل هنالك من مزيد على هذه الغرفة
الأمريكية الفريدة؟. لنبدأ بتسعة آلاف...
- عشرة آلاف..
- عندي بأحد عشر ألف ليرة.
بدأ المزاد على طرابيزة قهوة صغيرة، إحدى قوائمها مكسورة وحصيرتين وكرسي من
الخيزران وثلاثة كراسي خشبية وراح يتزايد الرقم ألفاً بعد ألف، دخلت سيدة
أنيقة ومترفعة ومتبرجة تلتقط انفاسها تسأل عن طقم الجلوس الذي بيع قبل
قليل:
- قالوا إنه قد بيع.
- واه.. واه!! خسارة، من اشتراها؟.
- السيد سانا.
- اشترتها كي تغيظني، لذلك سأشتري هذه الغرفة ولتنفجر.
وفجأة راح أحدهم يصرخ وكأنه يعلن عن خطر ما:
- بعشرين ألفاً!.
زادت عليه السيدة:
- عندي بواحد وعشرين ألف ليرة.
قال لها الرجل الذي كان بجانبها:
- لا يساوي هذا المبلغ يا زوجتي العزيزة.
- ماذا؟.. لا يساوي؟.. أمان! يا غالب لا يوجد لديك ذرة من الذوق.. هذه
الأشياء التي استعملها خبير أمريكي.. خمسة وعشرون:
- بخمسة وعشرين.
على ما يبدو أن قلب كمال قد لان لذلك حاول إيقاف المزاد وقال:
- بخمسة وعشرين سأبييييع.. بعت.
وإلا كان سيتابع المزاد لبيع الطربيزة والكراسي المكسرة إلى مئة ألف ليرة.
- سيداتي وسادتي ضوء عمودي "أولتراماتيك"!.. بألف!...
لم تكن هذه الأشياء من بين أغراضنا، لكن كمال قام بإضافة "سوكة" مصباح
كهربائي على عكاز والدي ، وباعها وكأنها "أولتراماتيك" بثلاثة آلاف ليرة. .
أما السيدة التي اشترت هذه "الأولترامتيك" فقالت متفاخرة:
- إنها ستناسب الصالون في بيتنا.
الرذالة الحقيقية بدأت عندما عرض فرشنا، أدرت رأسي نحو الجدار عندما رأيت
القطن المتسخ البارز من شقوق القماش، تصوروا أنه عرض الفرش المتسخة للبيع.
- سيداتي سادتي!.. فرش المستر (أرنولد) معروضة للبيع.. فرش هوليود
الفاخرة، مع وسائد صغيرة.. بألفين وخمسمئة ليرة..
- ثلاثة آلاف
باعها بخمسة آلاف ليرة. بعدما باع جميع الأشياء التي أحضرناها من بيت أبي،
بدأ بالأشياء المهملة والمكسرة التي كانت في بيتنا، ليست هذه الأشياء وحسب،
بل باع ملابسنا أيضاً، لم يبق لدينا أي شيء، ومع ذلك لم يخل البيت، وفي
لحظة ما اقترب مني كمال، وأمسكني من يدي ليسحبني إلى الحمام ويقول لي:
- هيا اخلع!..
- وماذا؟.
هيا اخلع بسرعة سأبيع ملابسك.، والداخلي أيضاً. ستشتري الملابس الجديدة
فيما بعد.
خلعت كل ما يسترني حتى أصبحت كما ولدتني أمي!!، وخرج كمال وأقفل علي باب
الحمام.
كنت أسمع صوته:
سيداتي سادتي المحترمين بنطال الخبير الأمريكي العريف (أرنولد) من القماش
"لاستكوتن" مئة في المئة ركبتاه مزينتان بقطع من "الغرنيتور".. بخمسمائة..
- ستمائه.
- سبعمائة.
بعد ذلك أتى الدور على ملابس الداخلية:
كيلوت العريف أرنولد.. مستعمل لمرتين فقط. بخمسين ليرة.
سمعت صوتاً نسائياً:
- حقيقة لا يساوي هذا المبلغ، لكن لو استعمله خمس عشرة مرة لدفعت هذا
المبلغ عن طيب خاطر.
- سيداتي وسادتي.. مناديل المستر آرنولد باي الفاخرة.. بثلاث ليرات.
- بخمس ليرات.
- بسبع.
- بعشر ليرات أبيع.. بعت. انتهى المزاد أيها السيدات والسادة..
سمعت صوت ضجيج وحركة غير طبيعية، كل واحد يأخذ أغراضه لينقلها. وبعد صمت
دام نصف ساعة، سمعت صوت كمال من خلف الباب:
- ربحنا مئة وسبعة وأربعين ألف ليرة.
- حياك الله يا كمال! – صرخت بأعلى صوت- افتح الباب بسرعة، لقد تجمدت من
البرد.
- انتظر قليلاً سأذهب لأشتري لك ملابس جديدة..
خرج كمال، بعد ساعة، وبعد ساعتين رحت ارتجف من البرد.
رحت أنط ويداي بين فخذي، غطى الظلام المدينة، ولم يعد كمال.
منذ أيام وأنا في الحمام سأتجمد من البرد، لو كسرت الباب وخرجت لألقي القبض
علي متهماً بالجنون، وبذلك سأهان، ولو كان موقد الغاز مفتوحاً لانتحرت.
هذه القصة أكتبها من الحمام، لكن عجباً، ماذا أصاب كمال؟ هل صدمه الباص أم
الترامواي أم أصابه مكروه؟ الحقيقة أقول إنه صديق جيد.