ثماني مرات كذبت أمي علي
تبدأ القصة عند ولادتي ,فكنت الابن الوحيد في أسرة شديدة الفقر
فلم يكن لدينا من الطعام ما يكفينا
وأذا وجدنا في يوم من الأيام بعضا" من الأرز لنأكله ويسد جوعنا.كانت أمي تعطيني نصيبها
بينما كانت تحول الأرز من طبقها الى طبقي تقول : يا ولدي تناول هذا الأرز, فأنا لست جائعة
وكانت هذه كذبتها الأولى
وعندما كبرت أنا شيئا" قليلا كانت أمي تنتهي من شئون المنزل وتذهب للصيد في نهر صغير
بجوار منزلنا, وكان عندها أمل أن أتناول سمكة قد تساعدني على أن أتغذى وأنمو , وفي مرة
من المرات أستطاعت بفضل الله أت تصطاد سمكتين , أسرعت الى البيت وأعدت الغداء ووضعت
السمكتين أمامي فبدأت أنا أتناول السمكة الأولى شيئا" فشيئا" , وأمي تتناول ما يتبقى من اللحم حول
العظام والشوك فأهتز قلبي لذلك ووضعت السمكة الأخرى أمامها , لتأكلها فأعادتها أمامي فورا
وقالت : ياولدي تناول هذه السمكة أيضا" ألا تعرف أني لا أحب السمك
وكانت هذه كذبتها الثانية
وعندما كبرت أنا كان لابد أن ألتحق بالمدرسة , ولم يكن معنا من المال ما يكفي مصروفات
الدراسة , ذهبت أمي الى السوق وأتفقت مع موظف بأحد محال الملابس أن تقوم هي بتسويق
البضاعة بأن تدور على المنازل وتعرض الملابس على السيدات,
وفي ليلة شتاء ممطرة , تأخرت أمي في العمل وكنت أنتظرها بالمنزل , فخرجت أبحث
عنها في الشوارع المجاورة ووجدتها تحمل البضائع وتطرق أبواب البيوت , فناديتها :
أمي , هيا نعود الى المنزل فالوقت متأخر والبرد شديد وبامكانك أن تواصلي العمل في الصباح
فأبتسمت أمي وقالت : يا ولدي ... أنا لست مرهقة
وكانت هذه كذبتها الثالثة
وفي يوم كان اختبار آخر العام بالمدرسة , اصرت أمي على الذهاب معي ودخلت أنا
ووقفت هي تنتظر خروجي في حرارة الشمس المحرقة
وعندما دق الجرس وانتهى الأمتحان خرجت لها , فأحتضنتني بقوة ودفء
وبشرتني بالتوفيق من الله تعالى , ووجدت معها كوبا" فيه مشروب كانت قد أشترته لي
كي أتناوله عند خروجي , فشربته من شدة العطش حتى أرتويت بالرغم من أن أحتضان
أمي لي : كان أكثر بردا" وسلاما , وفجأة نظرت الى وجهها فوجدت العرق يتصبب
منه , فأعطيتها الكوب على الفور وقلت لها : أشربي يا أمي : فردت : يا ولدي
أشرب أنت أنا لست عطشانة
وكانت هذه كذبتها الرابعة
وبعد وفاة أبي كان على أمي أن تعيش حياة الأم الأرملة الوحيدة , وأصبحت مسؤولية البيت
تقع عليها وحدها , ويجب أن توفر جميع الأحتياجات , فأصبحت الحياة أكثر تعقيدا" وصرنا نعاني الجوع
كان عمي رجلا طيبا وكان يسكن بجانبنا ويرسل لنا ما نسد به جوعنا , وعندما رأى الجيران حالتنا تتدهور
من سيء الى أسوأ , نصحوا أمي بأن تتزوج رجلا" ينفق علينا فهي لازالت صغيرة . ولكن
رفضت أمي الزواج قائلة : أنا لست بحاجة الى الحب
وكانت هذه كذبتها الخامسة
وبعدما أنتهيت من دراستي وتخرجت من الجامعة , حصلت على وظيفة الى حد ما جيدة
وأعتقدت أن هذا هو الوقت المناسب لكي تستريح أمي , وتترك لي مسؤولية الأنفاق
على المزل , وكانت في ذلك الوقت لم يعد لذيها من الصحة ما يعينها على أن تطوف بالمنازل
فكانت تفرش فرشا في السوق وتبيع الخضروات كل صباح , فلما رفضت أن تترك العمل
خصصت لها جزء من راتبي , فرفضت أن تأخذه قائلة : يا ولدي
أحتفظ بمالك . ان معي من المال ما يكفيني
وكانت هذه كذبتها السادسة
وبجانب عملي واصلت دراستي كي احصل على درجة الماجستير وبالفعل نجحت وأرتفع راتبي
ومنحتني الشركة الألمانية التي أعمل بها الفرصة للعمل بالفرع الرئيسي لها بألمانيا , فشعرت
بسعادة بالغة , وبدأت أحلم ببداية جديدة وحياة سعيدة , وبعدما سافرت وهيأت الظروف
اتصلت بأمي أدعوها لكي تأتي للاقامة معي , ولكنها لم تحب أن
تضايقني وقالت : يا ولدي......أنا لست معتادة على المعيشة المترفة
وكانت هذه كذبتها السابعة
وكبرت أمي وأصبحت في سن الشيخوخة , وأصابها مرض السرطان اللعين
وكان يجب أن يكون بجانبها من يمرضها , ولكن ماذا أفعل فبيني وبين أمي الحبيبة بلاد
تركت كل شيء وذهبت لزيارتها في منزلها , فوجدتها طريحة الفراش بعد اجراء العملية, و
عندما رأتني حاولت أمي أنا تبتسم لي ولكن قلبي كان يحترق لأنها كانت هزيلة جدا وضعيفة , ليست
أمي التي أعرفها , انهمرت دموعي من عيني ولكن أمي حاولت أن تواسيني فقالت :لاتبكي يا ولدي
فأنا لا أشعر بالألم
وكانت هذه كذبتها الثامنة
وبعدما قالت لي ذلك , أغلقت عينيها , فلم تفتحهما بعدها أبدا
الى كل من ينعم بوجود أمه في حياته
حافظ على هذه النعمة قبل أن تحزن على فقدانها
والى كل من فقد أمه الحبيبة
تذكر دائما كم تعبت من أجلك , وأدع الله تعالى لها بالرحمة والمغفرة
للدكتور مصطفى العقاد