حصل وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف على وعود سياسية من الرئيس السوري بشار الأسد تفتح المجال واسعا للتغيير والإصلاح. ما كان ليحصل على ذلك لولا رفع السقف إلى أقصاه في الأمم المتحدة وتسليف الأسد فيتو ثانياً مقرونا بفيتو صيني في أقل من 4 أشهر.
لم يقل لافروف كل شيء أمام الصحافيين بعد لقاء الأسد. قيل الكثير على الأرجح في الداخل. وصل الوزير الروسي إلى دولة تغلي على نار الحسم العسكري وتغلي على وقع المسيرات المرحبة بالزائر الكبير. شاهد بأم العين ما كان يعرفه عن بعد. سوريا منقسمة ولكن شعبية الأسد لا تزال حاضرة بوضوح. لا بد من الدفع إذاً باتجاه تسريع عجلة الإصلاحات لأن الحسم العسكري وحده لا يضمن المستقبل. سوريا القوية مهمة للأسد ولكنها مهمة أيضا لروسيا ولافروف. السلاح وحده ما عاد يصنع القوة، من المهم إذاً إغراء الغاضبين بأن الانفتاح السياسي جدي، وان السعي لحكومة وحدة وطنية أكيد، وان الانتخابات هي التي تقرر من يحكم البلد.
الأسد يتقدم بالحسم العسكري، وروسيا أعطت الضوء الأخضر. تدرك القيادة الروسية أن التفاوض باسم دولة قوية أهم من التفاوض على دولة ضعيفة. لم تكتف بالضوء وإنما قدمت مساعدة عسكرية وأمنية عنوانها طرطوس، وتفاصيلها لا يعلمها إلا رئيس الاستخبارات الروسية الذي رافق لافروف إلى دمشق. ما كانت موسكو لتقدم كل هذا الدعم لو أنها تشك بانهيار النظام. وما كانت لتقدمه لولا أنها تعيش أكثر لحظاتها زهواً بعودتها قوية إلى ساحة الصراع الدولي منذ تفكك الاتحاد السوفياتي.
جاء لافروف يؤكد دعمه للأسد. قال له ذلك على الأرجح في الجلسة المغلقة، ثم قاله على طريقته في الخارج. بدا الرئيس السوري أكثر من مرتاح. كلمات الود والترحيب والشكر اختصرت العنوان الأول. جاءت أنباء حمص تؤكد أن الجيش لا يزال قادرا على الضرب بيد من حديد، ولا يزال موحدا. وصلت تقارير أمنية تعزز موقف موسكو ودمشق القائل بأن السلاح والمسلحين خطيرون.
زائر كبير استقبلته دمشق أمس وحاولت أن تفهمه انه زائر كبير. كيف لا وهو الذي صارع العالم ليحافظ على تحالفه مع سوريا (حتى ولو كانت الأهداف أكبر بكثير من سوريا). باتت عاصمة الأمويين، كما كانت أكثر من مرة في التاريخ، محوراً لتجاذبات دولية ربما لم تبلغ يوماً ما بلغته اليوم. ولان المصالح الدولية تتقدم عادة على المبادئ، فإن الأسد أراد الإفادة إلى أقصى حد من الدعم الروسي وأعطاه ما يعزز موقفه في مجلس الأمن. وموسكو فهمت أن مصلحتها العالمية حاليا تكمن مع النظام السوري الحالي وليس مع نظام يأتي به الغرب فيقضي على آخر موقع روسي مهم في المنطقة.
ولأن الصراع الدولي في أوجه حول الأزمة السورية، لا بد من البحث عن تدعيم المستقبل. قال لافروف ووافقه الأسد بأن الحل السياسي هو حامي القوة العسكرية وليس العكس. حصل الوزير الروسي على وعود مهمة من الرئيس السوري بشأن الإصلاحات والدستور ومستقبل حزب البعث، وثمة تواريخ محددة ستظهر تباعا. قال الرجل أيضا إن الدول الغربية لن تسكت على الهزيمة وانه لا بد من الانتباه كثيرا. فصّل رئيس الاستخبارات الروسية ميخائيل فرادكوف ما ينبغي الانتباه له.
مجرد مجيء لافروف إلى دمشق حدث بحد ذاته. منذ بداية الأزمة السورية قبل 11 شهرا تجنّب الروس تكثيف اللقاءات الرسمية مع القيادة السورية منعا للإحراج. كانوا يريدون لعب دور الوسيط مع الحفاظ على تحالفهم الاستراتيجي مع الأسد. فتحوا الأبواب أكثر من مرة علانية أو في السر للمعارضة. تقاربوا كثيرا مع بعض أعضاء «هيئة التنسيق». حاولوا فتح خط جدي مع «المجلس الوطني». تبين لاحقا أن الضغوط الغربية والخليجية أقوى من كل محاولاتهم. كان المطلوب من هذه الأطراف إسقاط النظام. كانت كلمة السر عند قطر وأنقرة، لكن التنسيق السعودي ـ القطري لاحقا دفع الدوحة للعب الدور الأخطر بينما بقيت الرياض تحرك خيوطاً خلف الكواليس.
ما حصل في دمشق أمس ليس أمراً عابراً. الخطوط العريضة للتفاهم الأمني والسياسي بين البلدين صيغت بدقة قبل جلسة الفيتو المزدوج. حصلت اتصالات بعيدة عن الأضواء مع الإيرانيين والأتراك والمعارضة. وصل بعض هذه الاتصالات إلى قطر نفسها عبر طرف ثالث. كان المطلوب إيجاد قواسم مشتركة لإنجاح مهمة المراقبين العرب.
نصح الروس مرارا الأسد بتأخير الحسم العسكري والإبقاء على علاقة جيدة مع الجامعة العربية. قالوا أكثر من مرة لحليفهم السوري: نحن نضمن لك مجلس الأمن وأنت حافظ على مرونة مع الجامعة. قبل الأسد بروتوكول الجامعة برغم رفض سابق لأي تدخل في سوريا ورفض آخر لعقد أية لقاءات مع المعارضة خارج الأراضي السورية.
النقطة المفصلية كانت في آخر جلسة للجامعة العربية. تم الحصول على تسجيلات صوتية تؤكد أن رئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني قال بالحرف الواحد لنظرائه العرب: «مهما فعلتم سوف أنقل الملف السوري إلى مجلس الأمن». تبين للجانبين السوري والروسي أن الهدف الخليجي والدولي هو تحميل النظام السوري كل المسؤولية الجنائية والجرمية عما حصل واستصدار قرار إدانة من أعلى سلطة دولية مع ما يعنيه ذلك من فتح الأبواب أمام محاكمات دولية، وفرش السجاد الأحمر أمام تدخل عسكري حتى ولو لم يحصل.
كانت المعلومات الاستخباراتية الروسية والسورية تؤكد أن السلاح انتشر على نحو خطير. تبين أن ثمة خططا أمنية ستنفذ في مراحل متلاحقة وفي وقت واحد لإحداث بلبلة كبيرة. تم العثور على أنواع من الأسلحة والمتفجرات معدة لعمليات واسعة. جرى الحديث عن لائحة للاغتيالات تطال شخصيات مهمة. ظهر من تبادل المعلومات بين دمشق وموسكو وطهران أن ما يحصل على الأرض ليس مجرد تمرد مسلح جزئي. بعض هذا الملف حمله رئيس الاستخبارات الروسية.
يؤكد المقربون من الأسد ان «الفيتو» الروسي الأول لم يحصل بتفاهم مسبق مع دمشق. فوجئت القيادة السورية وبسعادة كبيرة بالفيتو المزدوج الروسي ـ الصيني آنذاك، أما هذه المرة فكان الاحتمال معروفا مسبقا. قال الروس بوضوح للسوريين قبل الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن: إما أن يتم التوصل إلى قرار خال من أي إشارة إلى تنحية الأسد والى حل عسكري ويؤكد وجود سلاح ومسلحين، وإلا فإن الفيتو جاهز.
منذ عدة أشهر، أدرك الأسد أن القرار الروسي بدعمه ليس أمرا عابرا بل هو جزء من استراتيجية روسية واسعة تحفظ مصالح روسيا بقدر ما تدعم سوريا. هذا ما يفسر ثقته الكبيرة بالنفس أمام كل الذين زاروه في الأشهر القليلة الماضية. كان الرئيس السوري يدرك أن هزيمة الولايات المتحدة في العراق والانهيارات الاقتصادية العالمية والخوف من القدرات العسكرية في المنطقة من إيران إلى «حزب الله» لن تسمح للغرب بمغامرة عسكرية. ولكن كان يدرك خصوصا أن الموقف الروسي هو استراتيجي وليس تكتيكيا.
رسخت زيارة لافروف أمس هذا التحالف الاستراتيجي بين البلدين. ارتاح الأسد. وارتاح أيضا فلاديمير بوتين، فرئيس الوزراء الروسي يدرك أن تحديه العالم في مجلس الأمن عزز الشعور القومي الروسي قبل أسابيع قليلة على الانتخابات الرئاسية في آذار المقبل.
«الباروميتر السوري» في السياسة الخارجية الروسية نجح. ولكن المشكلة أن ثمة مرشحين آخرين للرئاسة في العالم. الرئيس الأميركي باراك أوباما قد يخسر الانتخابات لو بقي الأسد في السلطة، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي كذلك. كيف سيواجه الرئيس الأميركي ناخبيه وهو الذي وعدهم منذ شهر نيسان الماضي بأن النظام السوري سقط؟ لا بد إذاً من تكثيف الضغوط، ليس مقبولا في الوقت الراهن نجاح أي مبادرة تعزز الأسد وتقوي محور إيران ـ سوريا ـ «حزب الله».
الأمر خطير على الاستراتيجية الأميركية. أميركا التي خرجت مهزومة من العراق شاهدت بأم العين قبل أيام تظاهرة لـ«حزب الله» في العراق، وتظاهرة أخرى للحوثيين يمتدحون إيران في قلب اليمن، أي في قلب الخليج، ورئيس الحكومة العراقية نوري المالكي يستعيد زمام الكثير من أمور الحكم والحكومة ويبعث بإشارات مقلقة للأميركيين بشأن تحليق طائراتهم فوق أراضي العراق، بينما مملكة البحرين تموج غضباً برغم القبضة الحديدية السعودية والغطاء الغربي الواسع.
لم يكن مفاجئاً والحالة هذه أن تتحرك آلة سحب السفراء. لم يكن غريباً أن يتزامن استدعاء سفراء أميركا وفرنسا وبريطانيا وبلجيكا وايطاليا وغيرها من دمشق، مع قرار دول الخليج بطرد سفراء سوريا من أراضيها. ولم يكن غريباً أن يسارع ساركوزي ومعه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لتدشين مجموعة اتصال للضغط على سوريا، وعاد رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان يتحدث عن خطة ضد الحكومة السورية. وبذلت قطر جل جهودها لجمع محمود عباس وخالد مشعل برعاية أميرها في الدوحة.
ما كل هذه التحركات إلا تعبير عن خسارة حقيقية أمام الروس والصينيين في الملف السوري. هي هستيريا وفق وصف لافروف.
في أوضاع كهذه يبقى احتمالان، فإما أن تنجح القيادة الروسية بجذب الغرب إلى صفها لحل الأزمة السورية فتحفظ ماء وجه الجميع، وإما أن تشهد سوريا تطورات أمنية خطيرة قد تدفع إلى مواجهة أوسع لن تستثني هذه المرة إيران.
لا شك بأن لافروف حصل من الأسد هذه المرة على ما يدعم كلا الخيارين، وتستطيع موسكو الآن التفاوض باسم دولة قوية. لا بد من صدمة سياســية كبــيرة تحمي الحسم العسكري؟ الأسد سيقرر شكل ذلك ومضمونه... أما التنحي بالقوة فقد صار من الماضي.