ربحت
سوريا معركة الصورة. تسلّح الروس بمشاهد رمي جثث رجال الأمن من فوق جسر
العاصي صوب المياه فرفعوا نسبة حججهم داخل قاعات مجلس الأمن الدولي. نجحت
موسكو في الحؤول دون تكبيل حليفتها دمشق بقرار دولي حازم.
هي الصور
تقود جزءا من معارك سوريا. كانت الفضائيات العربية والدولية أول من اختارها
عنوانا لإسقاط النظام السوري. بثت تلك الفضائيات صورا فعلية لمتظاهرين،
وأخرى مفبركة جيء ببعضها من اليمن أو
العراق. اكتشفت السلطات السورية أهمية المعركة التلفزيونية. اختارت أن تبث
صورا مخيفة لعمليات قتل يتعرض لها رجال الأمن. نجحت المعركة الأولى وربما
تنجح المعارك المقبلة لو تم بث كل ما تملك تلك السلطات من صور فيها تقطيع
جثث وقطع رؤوس على طريقة تنظيم القاعدة في العراق وغيره.
كان لا بد من
منح الروس حججا دامغة للدفاع عن العملية العسكرية السورية في حماه ودير
الزور وغيرهما. قلبت الصور جزءا من المعادلة في مجلس الأمن. تمسك الروس
بموقفهم القائل بأن النظام السوري يواجه فعلا مسلحين. تم تمرير صور إلى بعض
أعضاء المجلس، فجاء البيان الرئاسي الصادر محمِّلا المسلحين جزءا من
المسؤولية عن العنف.
حين يتحدث البيان الرئاسي في مجلس الأمن عن
الامتناع عن الأعمال الانتقامية، بما يشمل الهجمات على المؤسسات الحكومية»
فإنما يعترف رسميا بوجود مسلحين، وهذه نقطة مهمة سجلها التلفزيون الرسمي
السوري ومن خلفه السلطة في صالح النظام خلال واحدة من أشرس المعارك
الدبلوماسية التي تخاض حاليا في المجلس. وهي نقطة مهمة أيضا لمواجهة
المعركة الإعلامية التي نجحت في مصر وتونس، وكادت تنجح في ليبيا واليمن،
لكنها فقدت الكثير من قوتها في دمشق.
لكن الموقف الروسي قد لا يتكرر.
لعله وصل إلى أقصى مبتغاه ليأتي البيان الرئاسي شبه متوازن. بمعنى آخر لو
سقط مئة قتيل جديد في سوريا في خلال الأيام القليلة المقبلة، سيجد الروس
إحراجا كبيرا في الدفاع مجددا عن وجهة نظرهم إلا إذا تبين فعلا أن بعض
الأطراف المسلحة في سوريا هي أكثر خطورة مما يعتقد البعض تماما كما حصل
مؤخرا في أبين اليمنية.
يدرك النظام السوري حراجة الموقف. سارع الرئيس
بشار الأسد إلى تقديم هدية جديدة لحلفائه الروس وأصدقائه الصينيين. وقَّع
على مرسومين تشريعيين بشأن قانوني الأحزاب والانتخابات العامة، وقريبا
سيوقع على قانون الإعلام.
من المهم رصد تاريخ هذا التوقيع. فالأمر قُضي
بمرسوم رئاسي وليس عبر مجلس النواب المنتهية ولايته. هذا يفيد في مواجهة
المطالبين في تسريع تطبيق القوانين الإصلاحية، ويضع حدا للجدل الذي قام في
الأشهر الماضية حول طريقة تخريج القوانين، عبر المجلس أو بمرسوم. والتوقيع
جاء في مطلع شهر رمضان الذي أثار قلقا كبيرا حول احتمال ارتفاع منسوب
المواجهات خلاله، وجاء بعد فترة وجيزة على اللقاء التشاوري، وجاء خصوصا
متزامنا تقريبا مع بيان مجلس الأمن الدولي.
كل هذه المواعيد مهمة، ولكن
الأهم على الإطلاق أن التوقيع الرئاسي على قوانين الإصلاحات، جاء بعد أن
استكملت الأجهزة الأمنية السيطرة على مناطق الخطر الرئيسة. تم ضبط كل
الحدود من الأردن إلى لبنان إلى تركيا والعراق. بقيت دير الزور، ولعلها
ستحسم قريبا رغم حساسية المنطقة بسبب طابعها العشائري وعمليات التهريب
التاريخية التي تحصل عبرها من وإلى العراق. وتم الدخول إلى حمص وحماه، وأما
حلب فهي ملتزمة الهدوء لأسباب كثيرة بينها الاقتصادية.
تبدو رسالة
السلطة السورية واضحة. فبعد معركة حماه، سارع الرئيس إلى توقيع المراسيم.
أراد على ما يبدو أن يقول لشعبه وللعالم إن المعركة الأمنية ليست هدفا بحد
ذاتها، ولكن الإصلاحات لم تأت بسبب الضغط ولا بتوقيت غربي أو تركي بل
بتوقيته هو. وأراد أيضا التأكيد على أن المرحلة المقبلة ستكون مرحلة
الإصلاحات والسياسة والحركة الدبلوماسية.
سيكون ذلك مفيدا لو تسارعت
وتيرة تطبيق الإصلاحات. السباق مع الوقت مهم خصوصا أن المساعي الغربية
والإقليمية (وبعض العربية) أيضا حثيثة لجمع صفوف المعارضة في إطار واحد
يشبه المجلس الانتقالي في ليبيا. وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري
كلينــتون تلــتقي جزءا من المعارضة. قطر تستضيف مؤتمرا. تركيا تبقى ساحة
مفتــوحة للقاءات وتصدر بين الوقت والآخر مواقف ضد دمشق. فرنسا تحتضن جزءا
آخر من المعارضة، وترفع منسوب تصريحاتها. ايطاليا تسحب سفيرها. كل ذلك مرشح
للتفاقم لو ازداد توتر الوضع الأمني.
نجح الروس حتى الآن في وأد كل
المحاولات الغربية لتكبيل سوريا بالقرارات. نجحت دمشق في معركة الصور. غاب
العرب جميعا عن الصورة (كعادتهم في الملمات). جاء موقف لبنان مدروسا بدقة
متناهية بحيث ليس فيه امتناع ولا تأييد. لم يصدر عن سوريا حتى الآن أي
تعليق على بيان المجلس.
صمدت العلاقة الروسية ـ السورية حتى الآن.
مراسيم الرئيس قد تسحب بعض الغضب والذرائع من أيدي المعارضة. لكن كل ذلك
يبقى مرتبطا بأمرين: حركة الشارع السوري من جهة، وقدرة المناهضين للنظام
السوري في الخارج في تحريك الآلة ضده. من المنتظر إذاً إن تتزايد حركة
المعارضة ومعها جزء من الغرب، وأن يتحرك الشارع بزخم اكبر وأن يظهر مسلحون
آخرون، وربما أكثر خطورة وشراسة.
ربحت دمشق وموسكو جزءا من المعركة،
ولكن الحرب مستمرة. نهاية الحرب بحاجة لتسويات وصفقات تمتد من بيروت مرورا
بالعراق وصولا إلى إيران. لم تنضج بعد ظروف التسويات، فكيف إذا دخل عليها
جشع إسرائيل للغاز أمام السواحل اللبنانية؟