يرحل العمالقة بصمتٍ. لا يُحدثون جلبةً. ينطفئون من مرضٍ أو حادث أو نهاية عمرٍ. ليس منصور ممن يرحلون بصمتٍ بعد انزواءٍ أو انكفاء. لا يعرف منصور الهدوء، لا يجيدُ الرحيل بصمت، فهو إذ كان ممدداً على سرير المستشفى في بيروت ينازع المرض، كانت روحه ترقص جذلى في مكانٍ آخر، هناك على مسرح 'كازينو لبنان' حيث ما زالت أصداء مسرحيته الأخيرة «عودة طائر الفينيق» تتردّد كلّ مساء.
عرّج منصور على مسرحيته قبل أن يعود إلى «الفراش» الذي سينقله الى دنيوات أخرى. شريطٌ من الذكريات يمرّ أمامه ببطء من يودّع أحبابه وهو على عتبة الرحيل. هنا وُلِد بين جدران هذا البيت اللبناني العريق. هنا أمضى أياماً وردية طفلاً يلهو مرحاً في بساتين أنطلياس. هنا سكن «في بيوتٍ ليست ببيوت صنعت طفولته». هنا صرخ «لا» لبزة الشرطي البلدي منتفضاً على روتين الوظيفة المتواضعة لينضم الى أخيه عاصي في رحلة الاذاعة اللبنانية. هنا تعرّف الى نهاد حداد (فيروز) التي تزوّجت أخاه، فشكلوا معاً ثالوثاً حمل الأغنية اللبنانية إلى أصقاعٍ بعيدة بعيدة. هنا كتب أول مسرحية له ثم فاضت قريحته إبداعاً.
انتقل الى أدراج بعلبك، ومنها الى حنايا بيت الدين، جال على «أيام فخر الدين» و«جبال الصوان»، و«ناطورة المفاتيح»، و«قصيدة حب»، تراءت له مشاهد من «سفر برلك» و«بياع الخواتم» و«بنت الحارس»...
إنه في خريف العمر... ما زال ينضح عطاءً... الجمهور يصفّق بحرارة للـ «المتنبي»، ينحني لـ «سقراط»، يهلّل لـ «زنوبيا»...
تناهت الى مسامعه أنغامٌ دافئة... صوتٌ شجي... «زهرة المدائن».... «سنرجع يوماً»... «جسر العودة»... فيروز... فيروز تُهدهد له كي يغفى... يستسلم لانسياب صوتها العذب.
إنّه في الثالثة والثمانين. عاش دهراً من الزمن كتب فيه فصولاً... يشعر أنّ حبره قد جفّ... يلتفتُ خلفاً... يتراءى له أطفالٌ صغار يدندنون أغانيه... شبابٌ يردّدون حِكَماً من مسرحياته... وجوهٌ دافئة غابت عنه منذ فترة تطلّ عليه من جديد... أسامة... مروان... غدي... حوله ينحنون على سريره برفقٍ. يبتسم مطمئناً... أرخى جسده بارتياحٍ كمن أسدل للريح شراعَه... أغمض عينيه... رأى أخاه عاصي ملوِّحاً له من بعيد: «منصور! منصور! طوّلت الغيبة!».
عرّج منصور على مسرحيته قبل أن يعود إلى «الفراش» الذي سينقله الى دنيوات أخرى. شريطٌ من الذكريات يمرّ أمامه ببطء من يودّع أحبابه وهو على عتبة الرحيل. هنا وُلِد بين جدران هذا البيت اللبناني العريق. هنا أمضى أياماً وردية طفلاً يلهو مرحاً في بساتين أنطلياس. هنا سكن «في بيوتٍ ليست ببيوت صنعت طفولته». هنا صرخ «لا» لبزة الشرطي البلدي منتفضاً على روتين الوظيفة المتواضعة لينضم الى أخيه عاصي في رحلة الاذاعة اللبنانية. هنا تعرّف الى نهاد حداد (فيروز) التي تزوّجت أخاه، فشكلوا معاً ثالوثاً حمل الأغنية اللبنانية إلى أصقاعٍ بعيدة بعيدة. هنا كتب أول مسرحية له ثم فاضت قريحته إبداعاً.
انتقل الى أدراج بعلبك، ومنها الى حنايا بيت الدين، جال على «أيام فخر الدين» و«جبال الصوان»، و«ناطورة المفاتيح»، و«قصيدة حب»، تراءت له مشاهد من «سفر برلك» و«بياع الخواتم» و«بنت الحارس»...
إنه في خريف العمر... ما زال ينضح عطاءً... الجمهور يصفّق بحرارة للـ «المتنبي»، ينحني لـ «سقراط»، يهلّل لـ «زنوبيا»...
تناهت الى مسامعه أنغامٌ دافئة... صوتٌ شجي... «زهرة المدائن».... «سنرجع يوماً»... «جسر العودة»... فيروز... فيروز تُهدهد له كي يغفى... يستسلم لانسياب صوتها العذب.
إنّه في الثالثة والثمانين. عاش دهراً من الزمن كتب فيه فصولاً... يشعر أنّ حبره قد جفّ... يلتفتُ خلفاً... يتراءى له أطفالٌ صغار يدندنون أغانيه... شبابٌ يردّدون حِكَماً من مسرحياته... وجوهٌ دافئة غابت عنه منذ فترة تطلّ عليه من جديد... أسامة... مروان... غدي... حوله ينحنون على سريره برفقٍ. يبتسم مطمئناً... أرخى جسده بارتياحٍ كمن أسدل للريح شراعَه... أغمض عينيه... رأى أخاه عاصي ملوِّحاً له من بعيد: «منصور! منصور! طوّلت الغيبة!».