السفير
لم يحدث مرة، أن ثار جمهور المسرح السوري على عرض، كما ثار أخيراً على مسرحية بريطانية قدمها المجلس الثقافي البريطاني، بالتعاون مع مسرح الترافيرس في إدنبره. لم يسأهم أداء دون المستوى، ولا ساءهم موضوع من قبل. لم يروا في كل الركام الأدبي، والفني أي إساءة للمدينة. لقد أفزعتْهم أخيراً صورة مدينتهم على يد مؤلف ومخرج (فيليب هاورد) بريطانيين. لقد جعلهم عنوان المسرحية، الذي حمل اسم مدينتهم، شديدي الإنصات والترقب لمحتوى العمل المسرحي.
ليس من حق الغريب أن يلتفت إلى رائحة المراحيض في المدينة، وإذا حدث ذلك، كما حدث لبول بطل مسرحية «دمشق»، فسيقولون لِمَ لمْ يعلق في رأسه من دمشق سوى هذا؟ ولن يعفي بطل المسرحية، أنه تحدث بافتتان عن برتقال المدينة وأسواقها وألوانها، وأنه راح يكرر كم أحبَّ هذه المدينة. كذلك فإن ثلاث شخصيات، أراد الجمهور أن يسميها شخصيات سلبية، لا يمكن أن تمثل المدينة، أو تنوب عنها، وبالضبط، كما ردّ الممثل الرئيسي الذي لعب دور مؤلف كتب لتعليم اللغة الإنكليزية من اسكتلندة، لا يمكن لشخصية هذا الاسكتلندي أن تنوب عن شعبه.
تجري أحداث المسرحية في ردهة فندق في دمشق، حيث بول، مؤلف الكتب التعليمية جاء يعرض مؤلفاته للبيع. يلتقي منى، مندوبة معهد اللغة، التي ستنقل إليه اعتراضات الإدارة على المنهاج. الاعتراضات ستتناول مشكلات رقابية، من قبيل صورة لرجل رسم على ثيابه العلم الإسرائيلي، ما يشكل فاتحة لحديث عن حق الفلسطيني في بلاده التي ولد فيها، وآخر أعطي كل الحق في بلاد لم يولد فيها. التصادم بين هاتين الشخصيتين سيصل إلى أقصاه، ولكن فجأة يقرر كل منهما التخلي عن نظامه، عن النظام الذي يمثله كل منهما. وربما كان هذا الحوار هو الأهم في العرض، وهو ما كان جديراً بالمناقشة، لكن العرض راح يناقش وضع الحمال زكريا، عامل الفندق الذي لا يرى في العلاقة مع الأجانب سوى سهولة العثور على النساء بالجملة. هذه الشخصية الهامشية كان الوحيد الذي سُلّط عليه مصيرٌ تراجيدي رهيب، لقد حاول الوصول عبر بول إلى النساء الأجنبيات، وهو من جهة أخرى كتب حياته عبر سيناريو فيلم سينمائي وأراد من بول أن يمضي به إلى هوليوود، وهو قد أصيب بالفزع حين نصحه بول بأن يأخذه إلى التلفزيون السوري. وحين يعاد إليه كتاب حياته، لن يجد سوى الانتحار في مركز خشبة المسرح، كما لو كان هو بطل الخشبة الأخير. ليس الانتحار مفهوماً هنا، ولا لماذا كل هذه التراجيدية في هذه الشخصية الهامشية.
ليست صحراء
لكل من شخصيات العمل أزمة، وكلها محبوكة في إطار أزمة كبرى، هي نوع من السقوط، لعالم وشباب حالم، انتهى إلى اليأس وعدم الجدوى والانصياع للسلطات. جيل تربى شتم الامبريالية وسواها وانتهى للانصياع إلى دول الخليج، التي لم يوفرها العرض، حين قال مدير معهد اللغة، وهو الشاعر السابق، الذي كان يشارك في مسابقات شعرية تقام هناك، في الخليج: «يعطوننا الجوائز ما دمنا نكتب عن الأحصنة، أما الكتابة عن..». هنا بالذات تحضر دمشق، في محاولة أناس هذا المكان مرة تلو مرة، ثم فشلهم وسقوطهم. شخصيات العمل ليست سلبية كما يقول الكاتب (ديفيد غريغ)، إنها تحاول دائماً، ثم تنتهي إلى الفشل. ربما كان هذا السقوط الذي يلف الجميع في هذا المكان، هو ما يعني دمشق. لذلك فإن الكاتب يختم فصل المسرحية الأول بالقول: «إنها دمشق، يهطل الثلج أحياناً ، تحدث الأشياء، يموت الناس أحياناً». أما عن «يهطل الثلج» فهي نصف الكأس الملآن الذي لم يرد الناس أن يلتفتوا إليه، إنها تعبير عن تغيّر في صورة مدينة قُدمت إليه على أنها مجرد صحراء.
المشكلة تقع في مكان آخر؛ ففي العرض نجد نصاً أدبياً موازياً سيبدو على قدر من الجدية والحزن والتأمل، ولكن من دون أن يكون نابعاً فعلاً عن شخصيات العمل ومجرياته، ومن دون أن يكون فاعلاً في الدراما. فعازفة البيانو راحت تثرثر كل العرض، متخذة ما يشبه دور الراوي، من دون أن يكون لها ضرورة درامية تذكر. كانت تروي شيئاً يشبه دفتر مذكرات الكاتب، الذي قضى في دمشق لبعض الوقت، مشرفاً على تدريب مجموعة من الكتاب المسرحيين الشباب. كان بإمكان الكاتب أن يترك الشخصيات تقول، وحدها، من دون معين أدبي. المشكلة فعلاً في أن العرض أراد أن يحمّل المسرحية معاني من خارج ما يقع بين الشخصيات، لذلك فإن شاشة التلفزيون في ردهة الفندق لم تكف عن نقل صور حروب عن قناة «الجزيرة» من فلسطين ولبنان والعراق، إنها صور تظل في خلفية كلام الشخصيات، دعمتْها إشارة وحيدة من منى، التي تفسر الرقابة الذي يفرضها بلدها على الكتب التعليمية بالقول: «بلدي محاصر بالحروب». وبالمناسبة فقد تعرضت المسرحية نفسها لحذوفات رقابية، من دونها لم يكن لها أن تعرض.
(دمشق)