د. حمزة بن محمد السالم
كانت
الدولة قديما تتحصل على احتياجاتها المالية، سواء نقدا كالذهب والفضة أو
سلعا كالأنعام والسلاح، عن طريق الغنائم والجبايات (كالزكاة والخراج) أو
عن طريق الضرائب (كالمكوس والإتاوات). فإن عجزت الدولة عن تحصيل ما يغطي
نفقاتها لعجزها العسكري في تحصيل الغنائم أو ضعفها السياسي لتحصيل الخراج
أو فقر مواطنيها عن دفع الزكاة، اضطرت الدولة إلى الاستدانة من البعيد
والقريب. حتى إذا عجزت عن السداد أفلست الدولة وقدمت العذر للعدو الداخلي
والخارجي فتقوم على أطلالها دولة أو دويلات جديدة. واختزالي لسقوط الدول
بإفلاسها الاقتصادي أتى من حقيقة أن المال في الغالب هو من يجهز الجيوش
ويشتري الولاءات ويشفي الصدور ويذهب غيظ القلوب. فالإفلاس الاقتصادي تظهر
نتائجه خلال عمر الشخص الواحد، وأما الإفلاس السياسي أو الاجتماعي أو
الأخلاقي فغالبا ما تتطلب ظهور نتائجه أجيال عدة.
وعلى خلاف بساطة فهم المسألة وإدراكها قديما، فإن المفهوم الحديث لإفلاس
الدول اقتصاديا يصعب تحديده والجزم به، وإمكانية وقوعه تحتاج إلى تفصيل
طويل. فالأوراق النقدية المبنية على الثقة فقط قد جعلت من إفلاس الدول
أمرا ممكنا نظريا صعبا تطبيقيا في الواقع طالما أن الدولة لم تنزلق إلى فخ
الاستدانة بالعملة الأجنبية.
ولتقريب
المسألة، ففي العصر الحديث عندما تحتاج الدولة إلى الإنفاق الداخلي فما
عليها إلا أن تصدر سندات تبيعها على البنك المركزي الذي يقوم بدوره بطباعة
الأوراق النقدية من غير غطاء مقابل هذه السندات. هذه الأموال إن لم تنجح
الدولة في إيجاد بضائع وسلع حقيقية تساوي قيمتها قيمة هذه الأوراق، أو
عجزت عن إيجاد زبائن يشترون هذه السندات من البنك المركزي من أجل امتصاص
هذه الأوراق الجديدة على السوق المالية فستتناقص قيمة العملة داخليا, ما
ينتج عنه تضخم سعري يعكس القيمة الحقيقية لهذه الأوراق. ومن الأمثلة
الحديثة على ذلك فنزويلا التي عجزت أن تجذب المستثمرين لشراء سنداتها في
التسعينيات رغم أنها رفعت سعر الفائدة عليها إلى ما يصل إلى 100 في المائة
وتناقصت قيمة عملتها 1000 في المائة ولكنها لم تفلس. وتخفيض قيمة العملة
عن طريق زيادة طباعتها من أجل الإنفاق الحكومي هو في الواقع الحيلة
السياسية النقدية التي يتجنب السياسيون باستخدامها التبعيات المؤلمة
سياسيا التي تنتج عن زيادة الضرائب لتغطية العجز في الإنفاق أو بسبب إيقاف
الإعانات أو الخدمات العامة المجانية.
وأما إذا أرادت الدولة أن تحافظ على قيمة العملة الوطنية فإنها تتحصل
على احتياجاتها المالية عن طريق بيع سنداتها (التي هي بالعملة المحلية)
للبنوك وللشركات والمستثمرين وبهذه الطريقة لا تزداد كمية الأوراق النقدية
في المجتمع الاقتصادي، حيث إن الأموال التي تحصل عليها الدولة هي من
الأوراق الموجودة أصلا في النظام المالي, وبذلك تحافظ الدولة على قيمة
العملة أو معدل الصرف، والحافز عادة على ذلك هو المحافظة على نظام ربط
معدل الصرف للعملة المحلية، وهذا قريب مما فعلته الدولة السعودية في
التسعينيات. والمشكلة في هذا النموذج أنه حل لفترة زمنية قصيرة قد يصعب
إعادة التمويل فيها لعدة مرات ما سينتهي بالدولة إلى النموذج الأول وهو
بيع السندات للبنك المركزي الذي يقوم بدوره بطبع أوراق نقدية جديدة من أجل
سداد المستحقات المالية فتزيد كمية الأوراق في النظام المالي فينكسر نظام
الربط وتنهار قيمة العملة ولكن الدولة لم تفلس كذلك.
فإذن
عند التأمل فكلا الحالين لا يمكن أن يؤدي إلى إفلاس الدولة طالما أن
السندات مقومة بالعملة المحلية لأن الوفاء بمستحقاتها لا يكلف الدولة إلا
طباعة العملة، وغاية الأمر أن ينكسر نظام الربط في العملة المربوطة وتزداد
الأصفار بجانب الأرقام في كلا الحالين والخاسر الأكبر هنا هم حملة السندات
والمحتفظون بهذه الأوراق التي ستنهار قيمتها بانهيار قوتها الشرائية، وأما
الدولة فيكون ذلك طريقة سهلة لشطب ديونها والتخلص منها ولكنها طريقة مكلفة
بسبب خسارتها للثقة بنظامها النقدي وهو في الواقع خسارة عظيمة ينتج عنها
عدم الاعتراف بعملتها دوليا ومحليا (وتفصيل هذه الخسائر يأتي في موضع آخر
مستقبلا).
وهناك صور أخرى من إفلاس الدولة الاقتصادي وهو كون عملة الدولة مربوطة
بأقوى أنواع الربط للعملة ألا وهو رباط العملة الموحدة كاليورو. ففي هذه
الحالة الدولة ليس لها حق طباعة الأوراق النقدية بل عليها استخدام نموذج
إصدار السندات وبيعها على المؤسسات المالية والتجارية القائمة، أي أنها لا
تطبع أوراقا جديدة, بل تتمول من الأوراق الموجودة أصلا في النظام المالي.
ويحق لهذه البلد أن ترفع معدل الفائدة لجذب المستثمرين إليها كما فعلت
النمسا الشهر الماضي. فلو لم تستطع الدولة سداد مستحقاتها قد تعلن إفلاسها
وتُتخذ الإجراءات المناسبة بعد ذلك التي منها ما قد يصل في حالات معينة
إلى طرد الدولة من الاتحاد النقدي الأوروبي, وهذا ما لا يمكن حدوثه إذا
كانت رغبة أوروبا لا تزال قائمة في فرض عملة دولية قوية تنافس الدولار.
إذن فدول أوروبا هنا في وضع الإفلاس كوضع ولايات أمريكا الـ 50 التي سبق
التحدث عنها في المقال الماضي.
وأما
إذا استدانت الدولة (أي دولة سواء كانت ضمن اتحاد نقدي أو لم تكن) بعملة
أجنبية, ولم تستطع السداد لرأس المال أو الفوائد المتحصلة عنه فهذا ما
يمكن أن يطلق عليه إفلاس الدولة.
وأحدث مثال على إفلاس دولة في العصر الحديث، عصر الأوراق النقدية غير
المغطاة بثمن حقيقي، هو الإفلاس الرسمي لدولة أيسلندا. فالدولة ببساطة قد
عجزت عن سداد ديونها الخارجية (خارجية أي بالعملة الأجنبية) وبالتالي فقد
أصبحت عملتها المحلية الكرونا لا قيمة لها خارج حدود أيسلندا، وهناك دول
الآن تُهدد وتزبد مطالبة أيسلندا بالسداد. وكون أيسلندا خارج الاتحاد
النقدي الأوروبي قد أذهب وألغى الحافز لأي دولة أوروبية من الاتحاد لكي
تقوم بالمساعدة أو التدخل لإنقاذ أيسلندا من الإفلاس, كما فعلت دول أوروبا
الغربية مع دول أوروبا الشرقية خلال هذه الأزمة أو كما فعلت أبو ظبي مع
دبي. لأن إفلاس دولة من أوروبا الشرقية سينعكس على اليورو وعلى الدولة
الأوروبية المرتبطة بها اقتصاديا أكثر من غيرها، وكذلك إفلاس دبي سينعكس
على الدرهم. فأما في حالة اليورو فسيسبب إفلاس دولة من الاتحاد تناقصا
لقيمة اليورو وإزعاجا لليورو كعملة دولية، وأما في حالة دبي, فإن إفلاسها
لعجزها عن سداد ديونها الأجنبية قد يجعل من البنك المركزي الإماراتي عاجزا
عن الدفاع عن ربط الدرهم بمعدل الصرف الحالي, ما سيؤدي إلى عمليات بيع
للدرهم وهروب متضاعفة ككرة الثلج التي قد تقضي على احتياطيات الدولة وتشل
نظامها المالي.
وعودة إلى إفلاس أيسلندا, فبعد أن خصصت الدولة البنوك المحلية، تورطت هذه
البنوك في عمليات ضخمة للتمويل العقاري الأجنبي وشراء شركات مالية أجنبية،
وكذلك الأمر بالنسبة إلى السوق المحلية، حيث أصبح ملاك المنازل
والمستثمرين داخل أيسلندا يعتمدون على التمويلات الأجنبية في شراء بيوتهم
وتشييد استثماراتهم واستهلاكاتهم, وذلك لأن الفائدة على التمويلات
الأجنبية كانت أقل بكثير من الفائدة المحلية التي كانت مرتفعة بسبب ارتفاع
التضخم المحلي. وهكذا فقد أصبحت هذه البنوك المحلية تعمل كوسيط مالي تقترض
الأموال الأجنبية من بنوك الدول الأخرى بالعملات الأجنبية وتقرضها للداخل
أو الخارج, فأصبحت مديوناتهم بالنقد الأجنبي وموجداتهم مقومة بالنقد
الأجنبي، فعندما انهارت قيمة موجداتهم الأجنبية أو شُطبت عجزت البنوك
المحلية من تسديد مديوناتهم الأجنبية مع انهيار قيمة الكرونا فقامت الدولة
في محاولة إنقاذ فدائية! لهذه البنوك فاشترتها مما حول الإفلاس من البنوك
على الحكومة نفسها. يا ترى من ورط أيسلندا في هذه العمليات المالية
الأجنبية التي لم تستخدم فيها هذه القروض الأجنبية في بناء اقتصاد حقيقي
لهم ككوريا الجنوبية مثلا؟ كيف مكنت أيسلندا الغريب من نفسها فاقترضت
بنقده الأجنبي؟ هذا يعيدنا إلى بداية المقال، فبما أن حل الأزمة بربط
الكرونا باليورو والمحافظة عليه غير ممكن والدولة لا تملك احتياطيات
أجنبية فلم يبق حل أمام أيسلندا الآن إلا الانضمام للوحدة النقدية
الأوروبية وتبني اليورو وهو ما كان المحافظون هناك من أشد المعارضين له.
فهل ما حدث في أيسلندا خطأ اقتصادي أم مطب سياسي؟
وبعد فلعل مفهوم الفرق بين الثمن الحقيقي كالذهب وبين الثمن الاعتباري قد
اتضحت بعض معالمه وبالتالي نتائجه. ما أبسط مفهوم إفلاس الدول قديما وما
أشد تعقيده حديثا فكيف تقاد الأمة اقتصاديا بقوم استسقوا معلوماتهم من
تراجم لاقتصاديات القرن الـ 18 ميلادي ثم فرضوا أنفسهم على الأمة ،
مستغلين جهلها في دينها، يستحسنون لا يتبعون، يتلاعبون بالألفاظ كتلاعب
الصبيان.
* نقلا عن صحيفة "الإقتصادية" السعودية.
كانت
الدولة قديما تتحصل على احتياجاتها المالية، سواء نقدا كالذهب والفضة أو
سلعا كالأنعام والسلاح، عن طريق الغنائم والجبايات (كالزكاة والخراج) أو
عن طريق الضرائب (كالمكوس والإتاوات). فإن عجزت الدولة عن تحصيل ما يغطي
نفقاتها لعجزها العسكري في تحصيل الغنائم أو ضعفها السياسي لتحصيل الخراج
أو فقر مواطنيها عن دفع الزكاة، اضطرت الدولة إلى الاستدانة من البعيد
والقريب. حتى إذا عجزت عن السداد أفلست الدولة وقدمت العذر للعدو الداخلي
والخارجي فتقوم على أطلالها دولة أو دويلات جديدة. واختزالي لسقوط الدول
بإفلاسها الاقتصادي أتى من حقيقة أن المال في الغالب هو من يجهز الجيوش
ويشتري الولاءات ويشفي الصدور ويذهب غيظ القلوب. فالإفلاس الاقتصادي تظهر
نتائجه خلال عمر الشخص الواحد، وأما الإفلاس السياسي أو الاجتماعي أو
الأخلاقي فغالبا ما تتطلب ظهور نتائجه أجيال عدة.
وعلى خلاف بساطة فهم المسألة وإدراكها قديما، فإن المفهوم الحديث لإفلاس
الدول اقتصاديا يصعب تحديده والجزم به، وإمكانية وقوعه تحتاج إلى تفصيل
طويل. فالأوراق النقدية المبنية على الثقة فقط قد جعلت من إفلاس الدول
أمرا ممكنا نظريا صعبا تطبيقيا في الواقع طالما أن الدولة لم تنزلق إلى فخ
الاستدانة بالعملة الأجنبية.
ولتقريب
المسألة، ففي العصر الحديث عندما تحتاج الدولة إلى الإنفاق الداخلي فما
عليها إلا أن تصدر سندات تبيعها على البنك المركزي الذي يقوم بدوره بطباعة
الأوراق النقدية من غير غطاء مقابل هذه السندات. هذه الأموال إن لم تنجح
الدولة في إيجاد بضائع وسلع حقيقية تساوي قيمتها قيمة هذه الأوراق، أو
عجزت عن إيجاد زبائن يشترون هذه السندات من البنك المركزي من أجل امتصاص
هذه الأوراق الجديدة على السوق المالية فستتناقص قيمة العملة داخليا, ما
ينتج عنه تضخم سعري يعكس القيمة الحقيقية لهذه الأوراق. ومن الأمثلة
الحديثة على ذلك فنزويلا التي عجزت أن تجذب المستثمرين لشراء سنداتها في
التسعينيات رغم أنها رفعت سعر الفائدة عليها إلى ما يصل إلى 100 في المائة
وتناقصت قيمة عملتها 1000 في المائة ولكنها لم تفلس. وتخفيض قيمة العملة
عن طريق زيادة طباعتها من أجل الإنفاق الحكومي هو في الواقع الحيلة
السياسية النقدية التي يتجنب السياسيون باستخدامها التبعيات المؤلمة
سياسيا التي تنتج عن زيادة الضرائب لتغطية العجز في الإنفاق أو بسبب إيقاف
الإعانات أو الخدمات العامة المجانية.
وأما إذا أرادت الدولة أن تحافظ على قيمة العملة الوطنية فإنها تتحصل
على احتياجاتها المالية عن طريق بيع سنداتها (التي هي بالعملة المحلية)
للبنوك وللشركات والمستثمرين وبهذه الطريقة لا تزداد كمية الأوراق النقدية
في المجتمع الاقتصادي، حيث إن الأموال التي تحصل عليها الدولة هي من
الأوراق الموجودة أصلا في النظام المالي, وبذلك تحافظ الدولة على قيمة
العملة أو معدل الصرف، والحافز عادة على ذلك هو المحافظة على نظام ربط
معدل الصرف للعملة المحلية، وهذا قريب مما فعلته الدولة السعودية في
التسعينيات. والمشكلة في هذا النموذج أنه حل لفترة زمنية قصيرة قد يصعب
إعادة التمويل فيها لعدة مرات ما سينتهي بالدولة إلى النموذج الأول وهو
بيع السندات للبنك المركزي الذي يقوم بدوره بطبع أوراق نقدية جديدة من أجل
سداد المستحقات المالية فتزيد كمية الأوراق في النظام المالي فينكسر نظام
الربط وتنهار قيمة العملة ولكن الدولة لم تفلس كذلك.
فإذن
عند التأمل فكلا الحالين لا يمكن أن يؤدي إلى إفلاس الدولة طالما أن
السندات مقومة بالعملة المحلية لأن الوفاء بمستحقاتها لا يكلف الدولة إلا
طباعة العملة، وغاية الأمر أن ينكسر نظام الربط في العملة المربوطة وتزداد
الأصفار بجانب الأرقام في كلا الحالين والخاسر الأكبر هنا هم حملة السندات
والمحتفظون بهذه الأوراق التي ستنهار قيمتها بانهيار قوتها الشرائية، وأما
الدولة فيكون ذلك طريقة سهلة لشطب ديونها والتخلص منها ولكنها طريقة مكلفة
بسبب خسارتها للثقة بنظامها النقدي وهو في الواقع خسارة عظيمة ينتج عنها
عدم الاعتراف بعملتها دوليا ومحليا (وتفصيل هذه الخسائر يأتي في موضع آخر
مستقبلا).
وهناك صور أخرى من إفلاس الدولة الاقتصادي وهو كون عملة الدولة مربوطة
بأقوى أنواع الربط للعملة ألا وهو رباط العملة الموحدة كاليورو. ففي هذه
الحالة الدولة ليس لها حق طباعة الأوراق النقدية بل عليها استخدام نموذج
إصدار السندات وبيعها على المؤسسات المالية والتجارية القائمة، أي أنها لا
تطبع أوراقا جديدة, بل تتمول من الأوراق الموجودة أصلا في النظام المالي.
ويحق لهذه البلد أن ترفع معدل الفائدة لجذب المستثمرين إليها كما فعلت
النمسا الشهر الماضي. فلو لم تستطع الدولة سداد مستحقاتها قد تعلن إفلاسها
وتُتخذ الإجراءات المناسبة بعد ذلك التي منها ما قد يصل في حالات معينة
إلى طرد الدولة من الاتحاد النقدي الأوروبي, وهذا ما لا يمكن حدوثه إذا
كانت رغبة أوروبا لا تزال قائمة في فرض عملة دولية قوية تنافس الدولار.
إذن فدول أوروبا هنا في وضع الإفلاس كوضع ولايات أمريكا الـ 50 التي سبق
التحدث عنها في المقال الماضي.
وأما
إذا استدانت الدولة (أي دولة سواء كانت ضمن اتحاد نقدي أو لم تكن) بعملة
أجنبية, ولم تستطع السداد لرأس المال أو الفوائد المتحصلة عنه فهذا ما
يمكن أن يطلق عليه إفلاس الدولة.
وأحدث مثال على إفلاس دولة في العصر الحديث، عصر الأوراق النقدية غير
المغطاة بثمن حقيقي، هو الإفلاس الرسمي لدولة أيسلندا. فالدولة ببساطة قد
عجزت عن سداد ديونها الخارجية (خارجية أي بالعملة الأجنبية) وبالتالي فقد
أصبحت عملتها المحلية الكرونا لا قيمة لها خارج حدود أيسلندا، وهناك دول
الآن تُهدد وتزبد مطالبة أيسلندا بالسداد. وكون أيسلندا خارج الاتحاد
النقدي الأوروبي قد أذهب وألغى الحافز لأي دولة أوروبية من الاتحاد لكي
تقوم بالمساعدة أو التدخل لإنقاذ أيسلندا من الإفلاس, كما فعلت دول أوروبا
الغربية مع دول أوروبا الشرقية خلال هذه الأزمة أو كما فعلت أبو ظبي مع
دبي. لأن إفلاس دولة من أوروبا الشرقية سينعكس على اليورو وعلى الدولة
الأوروبية المرتبطة بها اقتصاديا أكثر من غيرها، وكذلك إفلاس دبي سينعكس
على الدرهم. فأما في حالة اليورو فسيسبب إفلاس دولة من الاتحاد تناقصا
لقيمة اليورو وإزعاجا لليورو كعملة دولية، وأما في حالة دبي, فإن إفلاسها
لعجزها عن سداد ديونها الأجنبية قد يجعل من البنك المركزي الإماراتي عاجزا
عن الدفاع عن ربط الدرهم بمعدل الصرف الحالي, ما سيؤدي إلى عمليات بيع
للدرهم وهروب متضاعفة ككرة الثلج التي قد تقضي على احتياطيات الدولة وتشل
نظامها المالي.
وعودة إلى إفلاس أيسلندا, فبعد أن خصصت الدولة البنوك المحلية، تورطت هذه
البنوك في عمليات ضخمة للتمويل العقاري الأجنبي وشراء شركات مالية أجنبية،
وكذلك الأمر بالنسبة إلى السوق المحلية، حيث أصبح ملاك المنازل
والمستثمرين داخل أيسلندا يعتمدون على التمويلات الأجنبية في شراء بيوتهم
وتشييد استثماراتهم واستهلاكاتهم, وذلك لأن الفائدة على التمويلات
الأجنبية كانت أقل بكثير من الفائدة المحلية التي كانت مرتفعة بسبب ارتفاع
التضخم المحلي. وهكذا فقد أصبحت هذه البنوك المحلية تعمل كوسيط مالي تقترض
الأموال الأجنبية من بنوك الدول الأخرى بالعملات الأجنبية وتقرضها للداخل
أو الخارج, فأصبحت مديوناتهم بالنقد الأجنبي وموجداتهم مقومة بالنقد
الأجنبي، فعندما انهارت قيمة موجداتهم الأجنبية أو شُطبت عجزت البنوك
المحلية من تسديد مديوناتهم الأجنبية مع انهيار قيمة الكرونا فقامت الدولة
في محاولة إنقاذ فدائية! لهذه البنوك فاشترتها مما حول الإفلاس من البنوك
على الحكومة نفسها. يا ترى من ورط أيسلندا في هذه العمليات المالية
الأجنبية التي لم تستخدم فيها هذه القروض الأجنبية في بناء اقتصاد حقيقي
لهم ككوريا الجنوبية مثلا؟ كيف مكنت أيسلندا الغريب من نفسها فاقترضت
بنقده الأجنبي؟ هذا يعيدنا إلى بداية المقال، فبما أن حل الأزمة بربط
الكرونا باليورو والمحافظة عليه غير ممكن والدولة لا تملك احتياطيات
أجنبية فلم يبق حل أمام أيسلندا الآن إلا الانضمام للوحدة النقدية
الأوروبية وتبني اليورو وهو ما كان المحافظون هناك من أشد المعارضين له.
فهل ما حدث في أيسلندا خطأ اقتصادي أم مطب سياسي؟
وبعد فلعل مفهوم الفرق بين الثمن الحقيقي كالذهب وبين الثمن الاعتباري قد
اتضحت بعض معالمه وبالتالي نتائجه. ما أبسط مفهوم إفلاس الدول قديما وما
أشد تعقيده حديثا فكيف تقاد الأمة اقتصاديا بقوم استسقوا معلوماتهم من
تراجم لاقتصاديات القرن الـ 18 ميلادي ثم فرضوا أنفسهم على الأمة ،
مستغلين جهلها في دينها، يستحسنون لا يتبعون، يتلاعبون بالألفاظ كتلاعب
الصبيان.
* نقلا عن صحيفة "الإقتصادية" السعودية.