د. عبدالرحمن محمد السلطان
نجاح دول الاتحاد الأوروبي في إطلاق عملة اليورو شجع مجموعات اقتصادية أخرى في العالم من بينها دول مجلس التعاون الخليجي على التفكير بجدية في إطلاق عملة موحدة، إلا أن أزمة المال العالمية أظهرت الصعوبات الكبيرة التي يمكن أن تواجهها عملة موحدة، وأنها وعلى عكس ما كان متوقعا قد تكون أقل قدرة على مواجهة الأزمات من العملات الوطنية المستقلة. فالاقتصاد الأمريكي هو الاقتصاد الأكثر تأثراً بهذه الأزمة والقطاع المالي الأمريكي هو الأكثر تهديداً بالانهيار نتيجة لها، وهي ظروف تجعل من الضروري تراجع سعر صرف الدولار أمام العملات الرئيسة العالمية، كاليورو مثلا، إلا أن ذلك لم يحدث، بل على العكس من ذلك نجد أنه ومع كل اشتداد للأزمة يميل سعر صرف اليورو للتراجع أمام الدولار ومع كل بادرة أمل بانفراجها يشهد سعر صرفه تحسنا.
هذا الوضع الغريب يعود بشكل أساسي إلى عدم ثقة المستثمرين في العالم بقدرة دول منطقة اليورو على التعامل مع الأزمة المالية مقارنة بدول أخرى تعتمد عملتها الوطنية كالولايات المتحدة واليابان. فالعملة الموحدة تفرض قيوداً تحد من قدرة الدول المنطوية تحتها فيما يتعلق بزيادة الإنفاق الحكومي لتحفيز الاقتصاد أو الاقتراض من البنك المركزي أو غير ذلك من إجراءات مالية ونقدية ضرورية لتجاوز هذه الأزمة في الدول الأكثر تضررا. إلا أن هذه الدول وبحكم عضويتها في منطقة اليورو لا تمتلك مثل هذه الصلاحيات وهي مقيدة برغبات البنك المركزي الأوروبي وبمعايير الوحدة النقدية الأوروبية الملزمة، لذا نجد أن دولاً مثل: إسبانيا، البرتغال، إيرلندا، واليونان وغيرها تعاني انعكاسات الأزمة المالية على اقتصادها إلا أنها غير قادرة على اتخاذ الإجراءات التي تكفل تعافي اقتصاداتها، والدول الأقل تأثرا والأقدر على المساعدة كألمانيا وفرنسا غير مستعدة لتحمل مسؤولية إنقاذ اقتصادات تلك الدول، وتكاد الحسنة الوحيدة لليورو في هذا الشأن هي توفير حماية للاقتصادات الصغيرة حديثة الانضمام إلى منطقة اليورو كسلوفينيا وسلوفاكيا ومالطا مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي الأخرى التي لم تنضم حتى الآن إلى منطقة اليورو كالمجر ودول البلطيق ورومانيا، حيث تسبب تراجع صرف عملاتها الحاد في تفاقم مشكلة خدمة ديون الأفراد والشركات كون معظمها بعملات أجنبية.
أيضاً فإن الأزمة المالية العالمية أظهرت أنه في حال قيام اتحاد نقدي بعملة موحدة فإن سوء التقدير من قبل إحدى الدول الداخلة في هذا الاتحاد يمكن أن يجر كامل منطقة الاتحاد النقدي لمخاطر كبيرة، وهو ما أكده أخيراً واحد من أهم المتبنين لفكرة اليورو والمدافعين عنه وهو محافظ البنك المركزي الألماني خلال فترة الثمانينيات كارول أوتو بول، حيث حذر من أن تخلف دولة عضو في منطقة اليورو عن الوفاء بالتزاماتها المالية Defaulting. اليونان على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي إلى تراجع سعر صرف اليورو بنسبة 50 إلى 60 في المائة وإلى ارتفاع هائل في أسعار الفائدة في منطقة اليورو. والإمارات هي في الواقع منطقة عملة موحدة يجمع بينها اتحاد سياسي وتتمتع بقدر من الاستقلال في إدارة شأنها الاقتصادي، وقد تسببت المبالغة الشديدة في الإقراض العقاري والاندفاع الشديد لاستقطاب الأموال الساخنة في إمارة دبي إلى تكون فقاعة عقارية هائلة، وانفجارها الآن لم يلحق الضرر بدبي وحدها وإنما جر معه كامل اقتصاد الإمارات، ووجدت "الدول الأخرى في هذا الاتحاد"، أبو ظبي تحديداً، أنها مضطرة للتدخل بقوة وهدر قدر كبير من فوائضها المالية لدعم النظام المالي وزيادة السيولة في البنوك ولإقراض إمارة دبي لمساعدتها على الوفاء بالتزاماتها، ولو كان هناك عملة خليجية موحدة لوجدت دول المجلس الأخرى أنها في الوضع نفسه ولأصبحت شريكاً في أزمة لا ناقة لها فيها ولا جمل.
لكل ذلك فإن من أبرز نتائج هذه الأزمة وانعكاساتها على فكرة الاتحادات النقدية القائمة على عملة موحدة أن أظهرت، وعلى عكس ما كان متصوراً، أن دول الوحدة النقدية في وضع أضعف ولديها قدرة أقل على التعامل مع أزمة بهذا الحجم والقوة، كما أن تضارب مصالح أعضائها واختلاف ظروفهم الاقتصادية، والذي سيكون حتمياً في ظل ذلك، يسهم في إضعاف الثقة بقدرة منطقة الاتحاد النقدي على التعامل مع المشكلات الاقتصادية، ما يقلل من ثقة المستثمرين في العملة الموحدة ويجعلها عرضة للتراجع، حيث نجد أن اليورو فقد منذ منتصف (أيلول) سبتمبر الماضي نحو 12 في المائة من قيمته أمام الدولار في حين أن الين الياباني مرتفع خلال الفترة نفسها بنسبة تزيد على 7 في المائة، وأن تتراجع الثقة باليورو إلى حد أن اقتصاديا معتبراً وأستاذاً في جامعة هارفارد وهو مارتن فيلدستين والذي كان أيضا رئيساً للمستشارين الاقتصاديين في إدارة الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان يكتب مقالاً قبل أيام يستعرض فيه عددا من السيناريوهات التي يمكن أن تفضي إلى انهيار اليورو، وأن تتفاوت أسعار الفائدة على سندات الخزانة من دولة إلى أخرى في منطقة اليورو بصورة تظهر أن المستثمرين في العالم يأخذون مثل هذا الاحتمال البعيد جداً بقدر من الجدية.
* نقلا عن صحيفة "الإقتصادية" السعودية.
نجاح دول الاتحاد الأوروبي في إطلاق عملة اليورو شجع مجموعات اقتصادية أخرى في العالم من بينها دول مجلس التعاون الخليجي على التفكير بجدية في إطلاق عملة موحدة، إلا أن أزمة المال العالمية أظهرت الصعوبات الكبيرة التي يمكن أن تواجهها عملة موحدة، وأنها وعلى عكس ما كان متوقعا قد تكون أقل قدرة على مواجهة الأزمات من العملات الوطنية المستقلة. فالاقتصاد الأمريكي هو الاقتصاد الأكثر تأثراً بهذه الأزمة والقطاع المالي الأمريكي هو الأكثر تهديداً بالانهيار نتيجة لها، وهي ظروف تجعل من الضروري تراجع سعر صرف الدولار أمام العملات الرئيسة العالمية، كاليورو مثلا، إلا أن ذلك لم يحدث، بل على العكس من ذلك نجد أنه ومع كل اشتداد للأزمة يميل سعر صرف اليورو للتراجع أمام الدولار ومع كل بادرة أمل بانفراجها يشهد سعر صرفه تحسنا.
هذا الوضع الغريب يعود بشكل أساسي إلى عدم ثقة المستثمرين في العالم بقدرة دول منطقة اليورو على التعامل مع الأزمة المالية مقارنة بدول أخرى تعتمد عملتها الوطنية كالولايات المتحدة واليابان. فالعملة الموحدة تفرض قيوداً تحد من قدرة الدول المنطوية تحتها فيما يتعلق بزيادة الإنفاق الحكومي لتحفيز الاقتصاد أو الاقتراض من البنك المركزي أو غير ذلك من إجراءات مالية ونقدية ضرورية لتجاوز هذه الأزمة في الدول الأكثر تضررا. إلا أن هذه الدول وبحكم عضويتها في منطقة اليورو لا تمتلك مثل هذه الصلاحيات وهي مقيدة برغبات البنك المركزي الأوروبي وبمعايير الوحدة النقدية الأوروبية الملزمة، لذا نجد أن دولاً مثل: إسبانيا، البرتغال، إيرلندا، واليونان وغيرها تعاني انعكاسات الأزمة المالية على اقتصادها إلا أنها غير قادرة على اتخاذ الإجراءات التي تكفل تعافي اقتصاداتها، والدول الأقل تأثرا والأقدر على المساعدة كألمانيا وفرنسا غير مستعدة لتحمل مسؤولية إنقاذ اقتصادات تلك الدول، وتكاد الحسنة الوحيدة لليورو في هذا الشأن هي توفير حماية للاقتصادات الصغيرة حديثة الانضمام إلى منطقة اليورو كسلوفينيا وسلوفاكيا ومالطا مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي الأخرى التي لم تنضم حتى الآن إلى منطقة اليورو كالمجر ودول البلطيق ورومانيا، حيث تسبب تراجع صرف عملاتها الحاد في تفاقم مشكلة خدمة ديون الأفراد والشركات كون معظمها بعملات أجنبية.
أيضاً فإن الأزمة المالية العالمية أظهرت أنه في حال قيام اتحاد نقدي بعملة موحدة فإن سوء التقدير من قبل إحدى الدول الداخلة في هذا الاتحاد يمكن أن يجر كامل منطقة الاتحاد النقدي لمخاطر كبيرة، وهو ما أكده أخيراً واحد من أهم المتبنين لفكرة اليورو والمدافعين عنه وهو محافظ البنك المركزي الألماني خلال فترة الثمانينيات كارول أوتو بول، حيث حذر من أن تخلف دولة عضو في منطقة اليورو عن الوفاء بالتزاماتها المالية Defaulting. اليونان على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي إلى تراجع سعر صرف اليورو بنسبة 50 إلى 60 في المائة وإلى ارتفاع هائل في أسعار الفائدة في منطقة اليورو. والإمارات هي في الواقع منطقة عملة موحدة يجمع بينها اتحاد سياسي وتتمتع بقدر من الاستقلال في إدارة شأنها الاقتصادي، وقد تسببت المبالغة الشديدة في الإقراض العقاري والاندفاع الشديد لاستقطاب الأموال الساخنة في إمارة دبي إلى تكون فقاعة عقارية هائلة، وانفجارها الآن لم يلحق الضرر بدبي وحدها وإنما جر معه كامل اقتصاد الإمارات، ووجدت "الدول الأخرى في هذا الاتحاد"، أبو ظبي تحديداً، أنها مضطرة للتدخل بقوة وهدر قدر كبير من فوائضها المالية لدعم النظام المالي وزيادة السيولة في البنوك ولإقراض إمارة دبي لمساعدتها على الوفاء بالتزاماتها، ولو كان هناك عملة خليجية موحدة لوجدت دول المجلس الأخرى أنها في الوضع نفسه ولأصبحت شريكاً في أزمة لا ناقة لها فيها ولا جمل.
لكل ذلك فإن من أبرز نتائج هذه الأزمة وانعكاساتها على فكرة الاتحادات النقدية القائمة على عملة موحدة أن أظهرت، وعلى عكس ما كان متصوراً، أن دول الوحدة النقدية في وضع أضعف ولديها قدرة أقل على التعامل مع أزمة بهذا الحجم والقوة، كما أن تضارب مصالح أعضائها واختلاف ظروفهم الاقتصادية، والذي سيكون حتمياً في ظل ذلك، يسهم في إضعاف الثقة بقدرة منطقة الاتحاد النقدي على التعامل مع المشكلات الاقتصادية، ما يقلل من ثقة المستثمرين في العملة الموحدة ويجعلها عرضة للتراجع، حيث نجد أن اليورو فقد منذ منتصف (أيلول) سبتمبر الماضي نحو 12 في المائة من قيمته أمام الدولار في حين أن الين الياباني مرتفع خلال الفترة نفسها بنسبة تزيد على 7 في المائة، وأن تتراجع الثقة باليورو إلى حد أن اقتصاديا معتبراً وأستاذاً في جامعة هارفارد وهو مارتن فيلدستين والذي كان أيضا رئيساً للمستشارين الاقتصاديين في إدارة الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان يكتب مقالاً قبل أيام يستعرض فيه عددا من السيناريوهات التي يمكن أن تفضي إلى انهيار اليورو، وأن تتفاوت أسعار الفائدة على سندات الخزانة من دولة إلى أخرى في منطقة اليورو بصورة تظهر أن المستثمرين في العالم يأخذون مثل هذا الاحتمال البعيد جداً بقدر من الجدية.
* نقلا عن صحيفة "الإقتصادية" السعودية.