الحد الادنى من الاخلاق يقود الى المعارضة الشاملة
النشأة والعمل المسرحي
ثمة مفارقة في انحياز فاكلاف هافل إلى هذا "الموقف الإنساني، الأخلاقي، العاطفي" الذي يسميه، مع بعض التردّد، الاشتراكية. ولد هافل، عام 1936، في بيت بورجوازي. وهو عندما يقول ذلك يستدرك أن هذه الولادة لم تقده "إلى التماهي مع الروحية البورجوازية والنظام الرأسمالي". كان "لديهم" في البيت: طباخة، وخادمة، وجنائني، وسائق، ومربية خاصة. لكن هذه الامتيازات سببت له "خجلاً شديداً" فلم يعد يطلب سوى "إزالتها طامحاً إلى المساواة مع الجميع". التمرّد الأول كان، بالطبع، التمرّد ضد العائلة وذلك في وقت كان الحزب الشيوعي حزباً جماهيرياً بكل معنى الكلمة. ومع ذلك لم يعتنق هافل، ولا مرة في حياته، الأفكار الشيوعية. قاده انتماؤه، فضلاً عن تمرّده، إلى تعزيز، الحساسية الاجتماعية، وهذه مفارقة يعترف بها، ويلاحظ أنها ترجمت نفسها على شكل "ردّات فعل حيال الامتيازات غير المستحقة والحواجز الاجتماعية".
استفاد هافل من بيئته لأنها وضعته، مباشرة، في قلب جو ثقافي. فكري ثري جداً. وهو يتلذّذ، باستمرار، في تعداد الصحافيين والفنانين والفلاسفة والمثقفين والأدباء على أنواعهم الذين كانوا "أصدقاء" العائلة والذين أقحموه في عالم الثقافة التشيكوسلوفاكية والأوروبية من بابها العريض.
تعرّض هذا الزاد الثقافي لصدمة كبرى عندما حان موعد الدخول إلى الجامعة وأراد هافل أن يكون في إحدى كليات الدراسات الإنسانية. لقد رفضت السلطة الشيوعية طلبه، عقاباً له على منشئه، وفرضت عليه الدخول إلى كلية الاقتصاد وإلى فرع المواصلات بالتحديد (!) لم يمنعه هذا من مواصلة اهتماماته الأدبية وصولاً إلى المشاركة في المؤتمر الثاني لاتحاد الكتّاب في تشيكوسلوفاكيا عام 1956. عقد المؤتمر في ظل أجواء متضاربة. كان الحزب الشيوعي السوفياتي قد أدان الستالينية في مؤتمره العشرين، ولكن الدبابات كانت تمارس القمع في بودابست. غومولكا، في بولونيا، كان يخرج من السجن إلى السلطة، وفي تشيكوسلوفاكيا كانت "نسمات حرية" خفيفة تهب على الحزب والمجتمع. لقد شكل المؤتمر أول تجربة عمل عام لهافل. لقد ألقى فيه خطاباً جريئاً استأثر بقسم كبير من المناقشات، ولعب دوراً في الدفع نحو إصدار مجلة ثقافية "كفيتين" (KVETEN) رسمية ومفتوحة على أطروحات أدبية جديدة.
لم يتسنّ لهافل المشاركة في المجلة إذ كان واجباً عليه، في العام التالي، 1957، أداء خدمته العسكرية. وتشاء الصدف أن يحصل احتكاكه الأول بالمسرح وهو في ثياب الجندية. هناك أخرج أولى مسرحياته "ليالي أيلول"، وكتب أولى مسرحياته "الحياة أمامنا"، وعرف الرقابة للمرة الأولى أيضاً. إذ إن لجنة عسكرية أدانت المسرحية الثانية باعتبار أنها تركز على حياة الجنود ولا تقدّم أي "بطل إيجابي" قريب من النماذج التي تحبها "الواقعية الاشتراكية".
فور تسريحه بدأ هافل العمل، كفني، في أحد المسارح الهامشية. واستمر يتنقل من مسرح إلى آخر حتى العام 1968.
المسرح في رأي هافل هو "بيئة حية وحيّز يتحقّق فيه الوعي الاجتماعي". المسرح علاقات، وصلات، وحياة جمعية، واشتراك. المسرح فرقة متعاضدة وعلاقة مع جمهور. المسرح حالة ضد الفردية والتفتيت والتذرر الاجتماعي. فكيف إذا كان هافل عمل في عدد من المسارح الصغيرة، الانتقادية، النائية عن رقابة السلطة، والتي لا تلعب دور قناة تمرير الأيديولوجيا الرسمية. ليست مسارح معارضة بالمعنى السياسي. إنها مجرد "خشبة" تدير ظهرها للسلطة وتضع اليومي، يومياً، في مواجهة الأيديولوجي.
أضف إلى ذلك أن المسرح كان، في الستينيات، جزءاً من حركة "معارضة سلبية" أوسع تبدأ في العلوم الإنسانية وتطال السينما، والرسم، والموسيقى (الموسيقى خاصة) والشعر، وهي حركة تحدث تصدّعاً في البنيان السلطوي وتقود، كما يذكر هافل إلى "الوعي والتحرّر الاجتماعي" أي إلى "ربيع براغ" في 1968.
يلخّص هافل هذه المرحلة بقوله إن "الفكرة التي تعتبر الكاتب ضمير أمته هي فكرة مبررة، تاريخياً، لدينا. لقد لعب الكُتّاب، طيلة سنوات، دور رجال السياسة وكان تجدد الشعب يرتبط بهم. احتفظوا باللغة حية، وشجعوا الوعي الوطني، وترجموا إرادة الأمة". لذلك لم يكن غريباً أن تستمر المواجهة الصامتة بينهم وبين السلطة وإن اضطرت هذه الأخيرة، إلى اعتماد الإغراء، فضلاً عن القمع من أجل استيعابهم. وصلت المواجهة إلى الذروة في المؤتمر الرابع لاتحاد الكُتّاب في 1968. ففي هذه المناسبة حصل القطع بين الكُتّاب وبين الحزب، ولعب عدد من الحزبيين الإصلاحيين، ضمن اتحاد الكُتّاب، دوراً كبيراً في قيادة هذه العملية (عبر مجلة "تفار"TVAR) التي يعتبرها هافل، عن حق، نوعاً من السنونو الذي يبشّر بالربيع.
1968
يوجّه هافل نقداً لعدد من المثقفين المتمسكين بمناصبهم، وامتيازاتهم، ضمن الاتجاه وخارجه، ويعتبرهم مسؤولين عن التخلف عن الحركة الإصلاحية التي لعبوا دوراً في إطلاقها وذلك بمجرد أن بدأ المجتمع يتحرك وأصيب الحزب الحاكم بالعدوى. ضغط المجتمع والتجاوب القسري، ولكن السريع، للحزب هما المسؤولان الرئيسيان عن تجربة "الاشتراكية" ذات "الوجه الإنساني" التي قادها دوبتشيك والتي يعتبرها هافل أكثر بكثير من مجرد "مواجهة بين مجموعتين سياسيتين". وهو، إذا كان يتجاوب معها ويؤيدها، (كتب مقالاً يومذاك يدعو فيه إلى نشوء حزب ديمقراطي يشارك في اللعبة السياسية) فإنه يقدم عدداً من الملاحظات على قيادتها. أبرز تلك الملاحظات تلك التي قالها، شفاهاً، لألكسندر دوبتشيك في الاجتماع الذي دعت القيادة السياسية المثقفين إليه: ضرورة العمل على منع التدخل السوفياتي بإيجاد حالة ضاغطة في تشيكوسلوفاكيا وأوروبا، تشريع الحزب الاشتراكي ـ الديمقراطي، دعم المسجونين السياسيين، إسقاط الأوهام حول السلوك المتوقع للكرملين، عدم البقاء في موقف دفاعي...
استمع دوبتشيك جيداً (وهذا ما أعجب هافل) ولكنه لم يأخذ بـ"النصائح" أو أن الأحداث تجاوزته. وهكذا فشلت القيادة في استغلال طاقات المجتمع مما سهّل تدخل قوات حلف وارسو وأثار المقاومة السلبية ضدها وأحدث حالة تضامنية لا يجد هافل، برغم موهبته، كلاماً كافياً لوصفها. وسرعان ما حل الإحباط محل الحماس و"اختلطت رغبات المرحلة وصعوباتها وتضحياتها بحس السخرية السوداء". يقول هافل "يستغرب الأجانب قدرتنا على تحمّل تجارب من هذا النوع والسخرية منها في آن معاً. من الصعب تبيان أنه لن يكون في وسعنا القيام بأعمال صعبة وجدية من دون سخرية. ولو كان علينا أن نظهر قدراً من الجدية متناسباً مع ازدياد خطورة الوضع لكان كل واحد منّا تحوّل إلى تمثال لنفسه، تمثال لا يكتب بيانات ولا يؤدي مهمة. وإذا كان لا يجب على المرء أن يذوب في جديته الخاصة إلى حد إثارة السخرية فالواجب هو امتلاك حس السخرية والهزء. عندما نفقد هذا الحس، يفقد عملنا، وهنا المفارقة، جديته".
التطبيع والرد الأخلاقي
بعد 68 بدأ التطبيع وشرع النظام في الاعتداء "على الحياة الطبيعية وعلى الحرية والشخصية الإنسانية". وبدأت المقاومة. سجن هافل لسنوات بعد أن طوّر معركة الدفاع عن فرقة موسيقية إلى حد المشاركة في تأسيس "شرعة 77" (بعد اتفاقات هلسنكي في 1975) التي نشطت في إصدار المواقف والتحاليل والدفاع عن حقوق الإنسان. كانت التزاماً أكثر منها عريضة فاق عدد الموقعين عليها الألف ومئتين.
من 68 مروراً بـ77، وبعد منع مسرحيات هافل، كتب الرجل كثيراً في السياسة. تحوّل إلى داعية لإحياء المدى العام، والمواطن الحر، ورفض الطاعة. قاوم الحرب الدائمة ضد المجتمع المدني والفرد وطالب بكسر رغبة السلطة في تنميط المواطنين، وإلغاء الفروقات وبناء شخصية كاذبة وغير واقعية، ودمج كل فرد في بنية السلطة ودفعه إلى إلغاء هويته من أجل تبنّي هوية النظام، وإشراكه، هكذا، في المسؤولية عن الدوران في فلك الحكم وفي اعتبار المعارض مشبوهاً لا بل... مريضاً.
اعتبر هافل أن الحقيقة قوة سياسية بامتياز وهي تبدأ بأن يحمي كل واحد نفسه من غزو الكذب الرسمي. فإذا حصلت الحماية استيقظ المجتمع المدني وحمى علاقاته وساعد في ذبول الفكر الآتي من "فوق" وتكون علامة الذبول استمرار التاريخ خلافاً لتوقعات الأيديولوجيا الرسمية!
يبقى أن الفكرة العامة في كتابات هافل، والتي تتكرر أكثر من غيرها، هي إسناد السياسة إلى الأخلاق. لا بل إن السياسة هي، في عرفه، "الأخلاق قيد التطبيق والممارسة". وهو يعتبر "أن أزمة المجتمع، في جوهرها، أخلاقية"، لذلك "فإن المخرج المنطقي الوحيد أمام المواطنين يجب أن يكون أخلاقياً"، وبما أن المعارضة هي حاملة هذا المخرج فإن "الحد الأدنى من الأخلاق يدفع، وحده إلى المعارضة الشاملة". ويعرّف هافل ما يعنيه بذلك مستعيداً رسالته إلى دوبتشيك: "القول عن شيء ما إن جوهره أو أصله أخلاقي يعني أننا لا نقوم به لأسباب براغماتية، أو لأننا واثقون أنه سوف ينجح على الأمد القصير ويعطي نتائج ملموسة، مادية، يمكن التحقّق منها، ولكن فقط لأننا نعتبره أمراً جيداً. يدفعنا الحافز الأخلاقي لعمل الخير من حيث المبدأ، حباً في الخير. وهو يستند إلى معطى ثابت يختلف جداً عن ذلك الذي يسند السلوك البراغماتي، إلى قناعتنا الجوهرية بأن الخير، في حد ذاته، له، باستمرار، معنى... الحافز الأخلاقي يدفعنا إلى القيام ببعض الأعمال من دون الاهتمام بمعرفة متى وكيف ستكلل بالنجاح ومن دون أية ضمانة بالقدرة، ذات يوم، على الاستفادة منها".
هذه "الأخلاقية" لا تمنع هافل، وهو في موقعه الجديد، من اعتبار أن التسويات ضرورية. ولكن هناك تسوية وتسوية. حسه السياسي الذي جعله "بطلاً بالرغم منه" يبقى محكوماً بالهم الأخلاقي ويجعل من صاحبه، كما يقول عن نفسه، رجل التناقضات: "يعتبرونني سياسياً وأنا لست كذلك. لست فيلسوفاً، ولا ناقداً أدبياً، ولا موسيقياً، لست اختصاصياً في المسرح ولا أنتمي إلى أي مجال. سمعتي هي أني معارض مشاغب ولكني قليل الثقة بنفسي. أخاف كثيراً وأشعر أحياناً بالشجاعة والقوة. منظّم وفوضوي. أحب الكسل وملذات الحياة. بطولة السجن المنسوبة إليّ ناتجة، في الحقيقة، عن هلع ومخاوف لا تنتهي: مثل طفل يستبدّ به الرعب لأنه يواجه الحياة، يخاف مسبقاً ويشك في موقعه فوق الأرض. أني أحتمل السجن أقل بكثير ممن كان احتمله كثيرون غير عبّروا عن إعجابهم بي. سوف أتعذّب باستمرار، أخاف، أرتعب، ألوم نفسي، ألعنها، أيأس، ولكن الناس يعرفون أن بوسعهم الاعتماد عليّ وأنهم يجدونني حيث هو مكاني. سأدفع ثمن ذلك غالياً لكني سأتحمّله بالرغم من كل شيء، وسأستمر في الإزعاج حيث يتوجّب ذلك".
... وبالفعل استمر فاكلاف هافل في الإزعاج إلى أن وجدناه حيث مكانه، في قصر الرئاسة!
(*) يستند هذا التعريف بفاكلاف هافل إلى كتابين بالفرنسية: "استجواب من بعيد" و"كتابات سياسية". كتاب رئيس الوزراء البولوني تاديوس مازوفيتسكي ـ وجه آخر لأوروبا يؤكد اشتراك كاتبه مع هافل في أفكار عديدة.
النشأة والعمل المسرحي
ثمة مفارقة في انحياز فاكلاف هافل إلى هذا "الموقف الإنساني، الأخلاقي، العاطفي" الذي يسميه، مع بعض التردّد، الاشتراكية. ولد هافل، عام 1936، في بيت بورجوازي. وهو عندما يقول ذلك يستدرك أن هذه الولادة لم تقده "إلى التماهي مع الروحية البورجوازية والنظام الرأسمالي". كان "لديهم" في البيت: طباخة، وخادمة، وجنائني، وسائق، ومربية خاصة. لكن هذه الامتيازات سببت له "خجلاً شديداً" فلم يعد يطلب سوى "إزالتها طامحاً إلى المساواة مع الجميع". التمرّد الأول كان، بالطبع، التمرّد ضد العائلة وذلك في وقت كان الحزب الشيوعي حزباً جماهيرياً بكل معنى الكلمة. ومع ذلك لم يعتنق هافل، ولا مرة في حياته، الأفكار الشيوعية. قاده انتماؤه، فضلاً عن تمرّده، إلى تعزيز، الحساسية الاجتماعية، وهذه مفارقة يعترف بها، ويلاحظ أنها ترجمت نفسها على شكل "ردّات فعل حيال الامتيازات غير المستحقة والحواجز الاجتماعية".
استفاد هافل من بيئته لأنها وضعته، مباشرة، في قلب جو ثقافي. فكري ثري جداً. وهو يتلذّذ، باستمرار، في تعداد الصحافيين والفنانين والفلاسفة والمثقفين والأدباء على أنواعهم الذين كانوا "أصدقاء" العائلة والذين أقحموه في عالم الثقافة التشيكوسلوفاكية والأوروبية من بابها العريض.
تعرّض هذا الزاد الثقافي لصدمة كبرى عندما حان موعد الدخول إلى الجامعة وأراد هافل أن يكون في إحدى كليات الدراسات الإنسانية. لقد رفضت السلطة الشيوعية طلبه، عقاباً له على منشئه، وفرضت عليه الدخول إلى كلية الاقتصاد وإلى فرع المواصلات بالتحديد (!) لم يمنعه هذا من مواصلة اهتماماته الأدبية وصولاً إلى المشاركة في المؤتمر الثاني لاتحاد الكتّاب في تشيكوسلوفاكيا عام 1956. عقد المؤتمر في ظل أجواء متضاربة. كان الحزب الشيوعي السوفياتي قد أدان الستالينية في مؤتمره العشرين، ولكن الدبابات كانت تمارس القمع في بودابست. غومولكا، في بولونيا، كان يخرج من السجن إلى السلطة، وفي تشيكوسلوفاكيا كانت "نسمات حرية" خفيفة تهب على الحزب والمجتمع. لقد شكل المؤتمر أول تجربة عمل عام لهافل. لقد ألقى فيه خطاباً جريئاً استأثر بقسم كبير من المناقشات، ولعب دوراً في الدفع نحو إصدار مجلة ثقافية "كفيتين" (KVETEN) رسمية ومفتوحة على أطروحات أدبية جديدة.
لم يتسنّ لهافل المشاركة في المجلة إذ كان واجباً عليه، في العام التالي، 1957، أداء خدمته العسكرية. وتشاء الصدف أن يحصل احتكاكه الأول بالمسرح وهو في ثياب الجندية. هناك أخرج أولى مسرحياته "ليالي أيلول"، وكتب أولى مسرحياته "الحياة أمامنا"، وعرف الرقابة للمرة الأولى أيضاً. إذ إن لجنة عسكرية أدانت المسرحية الثانية باعتبار أنها تركز على حياة الجنود ولا تقدّم أي "بطل إيجابي" قريب من النماذج التي تحبها "الواقعية الاشتراكية".
فور تسريحه بدأ هافل العمل، كفني، في أحد المسارح الهامشية. واستمر يتنقل من مسرح إلى آخر حتى العام 1968.
المسرح في رأي هافل هو "بيئة حية وحيّز يتحقّق فيه الوعي الاجتماعي". المسرح علاقات، وصلات، وحياة جمعية، واشتراك. المسرح فرقة متعاضدة وعلاقة مع جمهور. المسرح حالة ضد الفردية والتفتيت والتذرر الاجتماعي. فكيف إذا كان هافل عمل في عدد من المسارح الصغيرة، الانتقادية، النائية عن رقابة السلطة، والتي لا تلعب دور قناة تمرير الأيديولوجيا الرسمية. ليست مسارح معارضة بالمعنى السياسي. إنها مجرد "خشبة" تدير ظهرها للسلطة وتضع اليومي، يومياً، في مواجهة الأيديولوجي.
أضف إلى ذلك أن المسرح كان، في الستينيات، جزءاً من حركة "معارضة سلبية" أوسع تبدأ في العلوم الإنسانية وتطال السينما، والرسم، والموسيقى (الموسيقى خاصة) والشعر، وهي حركة تحدث تصدّعاً في البنيان السلطوي وتقود، كما يذكر هافل إلى "الوعي والتحرّر الاجتماعي" أي إلى "ربيع براغ" في 1968.
يلخّص هافل هذه المرحلة بقوله إن "الفكرة التي تعتبر الكاتب ضمير أمته هي فكرة مبررة، تاريخياً، لدينا. لقد لعب الكُتّاب، طيلة سنوات، دور رجال السياسة وكان تجدد الشعب يرتبط بهم. احتفظوا باللغة حية، وشجعوا الوعي الوطني، وترجموا إرادة الأمة". لذلك لم يكن غريباً أن تستمر المواجهة الصامتة بينهم وبين السلطة وإن اضطرت هذه الأخيرة، إلى اعتماد الإغراء، فضلاً عن القمع من أجل استيعابهم. وصلت المواجهة إلى الذروة في المؤتمر الرابع لاتحاد الكُتّاب في 1968. ففي هذه المناسبة حصل القطع بين الكُتّاب وبين الحزب، ولعب عدد من الحزبيين الإصلاحيين، ضمن اتحاد الكُتّاب، دوراً كبيراً في قيادة هذه العملية (عبر مجلة "تفار"TVAR) التي يعتبرها هافل، عن حق، نوعاً من السنونو الذي يبشّر بالربيع.
1968
يوجّه هافل نقداً لعدد من المثقفين المتمسكين بمناصبهم، وامتيازاتهم، ضمن الاتجاه وخارجه، ويعتبرهم مسؤولين عن التخلف عن الحركة الإصلاحية التي لعبوا دوراً في إطلاقها وذلك بمجرد أن بدأ المجتمع يتحرك وأصيب الحزب الحاكم بالعدوى. ضغط المجتمع والتجاوب القسري، ولكن السريع، للحزب هما المسؤولان الرئيسيان عن تجربة "الاشتراكية" ذات "الوجه الإنساني" التي قادها دوبتشيك والتي يعتبرها هافل أكثر بكثير من مجرد "مواجهة بين مجموعتين سياسيتين". وهو، إذا كان يتجاوب معها ويؤيدها، (كتب مقالاً يومذاك يدعو فيه إلى نشوء حزب ديمقراطي يشارك في اللعبة السياسية) فإنه يقدم عدداً من الملاحظات على قيادتها. أبرز تلك الملاحظات تلك التي قالها، شفاهاً، لألكسندر دوبتشيك في الاجتماع الذي دعت القيادة السياسية المثقفين إليه: ضرورة العمل على منع التدخل السوفياتي بإيجاد حالة ضاغطة في تشيكوسلوفاكيا وأوروبا، تشريع الحزب الاشتراكي ـ الديمقراطي، دعم المسجونين السياسيين، إسقاط الأوهام حول السلوك المتوقع للكرملين، عدم البقاء في موقف دفاعي...
استمع دوبتشيك جيداً (وهذا ما أعجب هافل) ولكنه لم يأخذ بـ"النصائح" أو أن الأحداث تجاوزته. وهكذا فشلت القيادة في استغلال طاقات المجتمع مما سهّل تدخل قوات حلف وارسو وأثار المقاومة السلبية ضدها وأحدث حالة تضامنية لا يجد هافل، برغم موهبته، كلاماً كافياً لوصفها. وسرعان ما حل الإحباط محل الحماس و"اختلطت رغبات المرحلة وصعوباتها وتضحياتها بحس السخرية السوداء". يقول هافل "يستغرب الأجانب قدرتنا على تحمّل تجارب من هذا النوع والسخرية منها في آن معاً. من الصعب تبيان أنه لن يكون في وسعنا القيام بأعمال صعبة وجدية من دون سخرية. ولو كان علينا أن نظهر قدراً من الجدية متناسباً مع ازدياد خطورة الوضع لكان كل واحد منّا تحوّل إلى تمثال لنفسه، تمثال لا يكتب بيانات ولا يؤدي مهمة. وإذا كان لا يجب على المرء أن يذوب في جديته الخاصة إلى حد إثارة السخرية فالواجب هو امتلاك حس السخرية والهزء. عندما نفقد هذا الحس، يفقد عملنا، وهنا المفارقة، جديته".
التطبيع والرد الأخلاقي
بعد 68 بدأ التطبيع وشرع النظام في الاعتداء "على الحياة الطبيعية وعلى الحرية والشخصية الإنسانية". وبدأت المقاومة. سجن هافل لسنوات بعد أن طوّر معركة الدفاع عن فرقة موسيقية إلى حد المشاركة في تأسيس "شرعة 77" (بعد اتفاقات هلسنكي في 1975) التي نشطت في إصدار المواقف والتحاليل والدفاع عن حقوق الإنسان. كانت التزاماً أكثر منها عريضة فاق عدد الموقعين عليها الألف ومئتين.
من 68 مروراً بـ77، وبعد منع مسرحيات هافل، كتب الرجل كثيراً في السياسة. تحوّل إلى داعية لإحياء المدى العام، والمواطن الحر، ورفض الطاعة. قاوم الحرب الدائمة ضد المجتمع المدني والفرد وطالب بكسر رغبة السلطة في تنميط المواطنين، وإلغاء الفروقات وبناء شخصية كاذبة وغير واقعية، ودمج كل فرد في بنية السلطة ودفعه إلى إلغاء هويته من أجل تبنّي هوية النظام، وإشراكه، هكذا، في المسؤولية عن الدوران في فلك الحكم وفي اعتبار المعارض مشبوهاً لا بل... مريضاً.
اعتبر هافل أن الحقيقة قوة سياسية بامتياز وهي تبدأ بأن يحمي كل واحد نفسه من غزو الكذب الرسمي. فإذا حصلت الحماية استيقظ المجتمع المدني وحمى علاقاته وساعد في ذبول الفكر الآتي من "فوق" وتكون علامة الذبول استمرار التاريخ خلافاً لتوقعات الأيديولوجيا الرسمية!
يبقى أن الفكرة العامة في كتابات هافل، والتي تتكرر أكثر من غيرها، هي إسناد السياسة إلى الأخلاق. لا بل إن السياسة هي، في عرفه، "الأخلاق قيد التطبيق والممارسة". وهو يعتبر "أن أزمة المجتمع، في جوهرها، أخلاقية"، لذلك "فإن المخرج المنطقي الوحيد أمام المواطنين يجب أن يكون أخلاقياً"، وبما أن المعارضة هي حاملة هذا المخرج فإن "الحد الأدنى من الأخلاق يدفع، وحده إلى المعارضة الشاملة". ويعرّف هافل ما يعنيه بذلك مستعيداً رسالته إلى دوبتشيك: "القول عن شيء ما إن جوهره أو أصله أخلاقي يعني أننا لا نقوم به لأسباب براغماتية، أو لأننا واثقون أنه سوف ينجح على الأمد القصير ويعطي نتائج ملموسة، مادية، يمكن التحقّق منها، ولكن فقط لأننا نعتبره أمراً جيداً. يدفعنا الحافز الأخلاقي لعمل الخير من حيث المبدأ، حباً في الخير. وهو يستند إلى معطى ثابت يختلف جداً عن ذلك الذي يسند السلوك البراغماتي، إلى قناعتنا الجوهرية بأن الخير، في حد ذاته، له، باستمرار، معنى... الحافز الأخلاقي يدفعنا إلى القيام ببعض الأعمال من دون الاهتمام بمعرفة متى وكيف ستكلل بالنجاح ومن دون أية ضمانة بالقدرة، ذات يوم، على الاستفادة منها".
هذه "الأخلاقية" لا تمنع هافل، وهو في موقعه الجديد، من اعتبار أن التسويات ضرورية. ولكن هناك تسوية وتسوية. حسه السياسي الذي جعله "بطلاً بالرغم منه" يبقى محكوماً بالهم الأخلاقي ويجعل من صاحبه، كما يقول عن نفسه، رجل التناقضات: "يعتبرونني سياسياً وأنا لست كذلك. لست فيلسوفاً، ولا ناقداً أدبياً، ولا موسيقياً، لست اختصاصياً في المسرح ولا أنتمي إلى أي مجال. سمعتي هي أني معارض مشاغب ولكني قليل الثقة بنفسي. أخاف كثيراً وأشعر أحياناً بالشجاعة والقوة. منظّم وفوضوي. أحب الكسل وملذات الحياة. بطولة السجن المنسوبة إليّ ناتجة، في الحقيقة، عن هلع ومخاوف لا تنتهي: مثل طفل يستبدّ به الرعب لأنه يواجه الحياة، يخاف مسبقاً ويشك في موقعه فوق الأرض. أني أحتمل السجن أقل بكثير ممن كان احتمله كثيرون غير عبّروا عن إعجابهم بي. سوف أتعذّب باستمرار، أخاف، أرتعب، ألوم نفسي، ألعنها، أيأس، ولكن الناس يعرفون أن بوسعهم الاعتماد عليّ وأنهم يجدونني حيث هو مكاني. سأدفع ثمن ذلك غالياً لكني سأتحمّله بالرغم من كل شيء، وسأستمر في الإزعاج حيث يتوجّب ذلك".
... وبالفعل استمر فاكلاف هافل في الإزعاج إلى أن وجدناه حيث مكانه، في قصر الرئاسة!
(*) يستند هذا التعريف بفاكلاف هافل إلى كتابين بالفرنسية: "استجواب من بعيد" و"كتابات سياسية". كتاب رئيس الوزراء البولوني تاديوس مازوفيتسكي ـ وجه آخر لأوروبا يؤكد اشتراك كاتبه مع هافل في أفكار عديدة.