يعيش العالم اليوم على وقع أخبار أسواق المال التي فرضت إيقاعها على مظاهر الحياة، خاصة في المناطق التي تمثل مركزا حيويا للاقتصاد المعولم.
لقد خطفت هذه الأزمة الأضواء على الساحة الإعلامية بالنظر لخطورتها وبالنظر كذلك إلى التفرغ الكلي لأقطاب القرار السياسي العالمي لمواجهتها.
ومن المؤشرات على ذلك أن مرت تعيينات الفائزين بجائزة نوبل هذه السنة، وعلى غير العادة، في شكل أخبار متفرقة وثانوية بعد أن غمرتها أخبار داو جونز. إنها أزمة فاجأت الجميع في ظل واقع الاقتصاد الإنتاجي المتماسك، إلى حد ما، وفي ظل سرعة انتشارها.
لكن على الرغم من آنية هذا الحدث وبغض النظر عن التطورات اللاحقة المحتملة فإن مضامينه الأخلاقية وانعكاساته على المستوى الاجتماعي بدأت تفرض نفسها كضرورة ملحة.
أزمة مالية أم أزمة الليبرالية؟
بات من المعلوم أن الجذور المباشرة للأزمة المالية الحالية تعود إلى قضية القروض العقارية (Sub-primes) التي استفاد بموجبها صغار الموظفين الأميركيين وفقراء الأجراء والمتقاعدين من فرصة الحصول على مسكن مقابل ريع ربوي غير قار.
بدأ شبح الأزمة عندما بات من المؤكد أن أغلب المستفيدين من هذه القروض لم يعد بإمكانهم سداد دينهم بسبب الارتفاع المشط والفجائي لقيمة السداد الربوي الشهري المطلوب الذي تجاوز في بعض الحالات 70% من دخل المدينين.
كانت هذه النتيجة بمثابة الإشارة الأولى إلى وضع مالي غير عادي لا بد من معالجته بطريقة حكيمة تأخذ بعين الاعتبار البعد الاجتماعي، لكن الغريب في الأمر أن رد البنوك الأميركية المقرضة، مثل بنك فاني ماي وبنك لبمان براذرز، كان نهاية في العجرفة واللاإنسانية.
لقد طلب ممن عجز عن الدفع ترك منزله على الفور، وهذا ما حصل بالفعل على يد الشرطة الأميركية التي رافقت جحافل الفقراء الأميركيين نحو العراء.
المشكل أن هذه الكارثة الاجتماعية لم تحل صعوبات البنوك، بل على العكس سارعت في انهيارها، إذ فقدت المساكن المنشأة جانبا كبيرا من قيمتها منعكسة بذلك على قيمة أسهم هذه البنوك في البورصات، وتجنبت البنوك الأخرى إقراضها في إطار الديون البين بنكية.
وفي النهاية اكتمل المشهد بإعلان البنوك الأميركية وشركات التأمين المرتبطة مباشرة بقضية الديون العقارية إفلاسها، وتبع ذلك توقف شبه كلي للتعامل البين بنكي وفقدان الثقة في حركة الأسهم.
هذه هي أبرز حلقات هذا المسلسل المتسارع الأحداث. بقي السؤال الأهم وراء هذه الحيثيات والمتمثل في تقييم الأبعاد الاقتصادية للأزمة. هل أنها مجرد أزمة مالية ظرفية مرتبطة بخطأ معزول أم أنها أزمة هيكلية مرتبطة بطبيعة النظام الليبرالي ذاته؟
يروج ساسة البلدان المتقدة، وكذلك الاقتصاديون الليبراليون، تحليلا يرى أن الأزمة مرتبطة بالفعل بإستراتيجية استثمار خاطئة اعتمدتها بعض البنوك الأميركية. وتذهب هذه الأطراف أبعد من ذلك في اعتبار أن خطأ هذه البنوك يتمثل في إقراض الفقراء لكونهم شريحة غير مضمونة من ناحية سداد الديون.
وعلى الرغم من أن بعض هؤلاء يتحدث اليوم عن ضرورة إعطاء مسحة أخلاقية للرأسمال المالي، فإنهم يحصرون هذا البعد الأخلاقي في ضرورة احترام تداخل النظام المالي العالمي وتعقده، مما يستوجب الحيطة وعدم المغامرة غير المحسوبة في المضاربة.
بلغة أخرى فإن الهدف النهائي من هذه المسحة الأخلاقية هو ضبط مسؤولية الفاعلين الاقتصاديين باتجاه المحافظة على النظام المالي الكلي القائم.
لكن مثل هذه التبريرات تبدو متعارضة إلى حد كبير مع واقع الأزمة الحالية. ويبرز التعارض الأول بين اعتبار الأزمة ناجمة عن خطأ معزول، وبين سرعة انتشارها في العالم.
وأقل ما يمكن أن يقال هنا إن النظام الليبرالي الحالي هو نظام هش ما دام بنك واحد في العالم يمكن أن يحدث فعل لعبة الدومينو على المؤسسات الاقتصادية في شتى القارات.
يبدو التناقض واضحا كذلك من حيث اعتبار صغار الموظفين والعمال عالة على نظام الاقتراض وتناسي دورهم في تعزيز قدرات البنوك عن طريق الادخار والاستهلاك.
من جهة أخرى، يصعب الأخذ بمثل هذا التحليل إذا سحبناه على إطار جغرافي أوسع في ظل اقتصاد معولم. فلو همشنا بعض الفئات الاجتماعية من دائرة الاقتراض على صعيد دولة، ما الذي يمنع تهميش الدول الفقيرة من دائرة التعامل المالي العالمي؟ والحال أن الدول الكبرى، معتمدة على البنك العالمي وعلى صندوق النقد الدولي، ما فتئت تغرق هذه البلدان بقروضها وبشروط مشطة أدت إلى إفلاس العديد من الدول.
نضيف هنا أن هذا الإقرار بعدم تطابق الفقر مع الاستثمار المالي تكذبه على أرض الواقع تجربة محمد يونس الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد من خلال ما أنجزه مع غرامين بنك من استثمارات مع الأوساط الأكثر فقرا في بنغلاديش.
فقد بينت هذه التجربة أن المشكل الأساسي يكمن في تطابق الأهداف المالية للدين مع حد أدنى من اعتبار الأوضاع الاجتماعية للحرفاء.
إن التحليلات الليبرالية التي نسمعها اليوم تتفادى الخوض في عمق المسائل المتعلقة بالاستثمار وبالعلاقة بين الاقتصاد الحقيقي الإنتاجي والمضاربة المالية وكذلك بالتهميش المفرط للدولة ولدور الرقابة الجماعية على أسواق الأعمال.
لقد أفلتت كل هذه المسائل من عقالها منذ نهاية الثمانينيات ونهاية الحرب الباردة، وما نتج عن ذلك من انفراد الليبرالية المطلقة في ساحة المبادرة السياسية والاقتصادية.
ولا يمكن أن ينكر أحد أن البنوك التي تورطت في قروض سابرايمز فعلت ذلك ضمن عقلية النظام الليبرالي نفسه التي تلهث وراء رفع رقم المعاملات وتحسين الأرباح.
ووصل الأمر إلى حد أن التطبيقات العملية لهذه العقلية في المجال المالي أصبحت في تعارض تام مع واقع الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي من ناحية، وكذلك مع إعادة هيكلة الاقتصادات داخل الدول الكبرى وما نتج عن ذلك من زيادة هشاشة وضع صغار الموظفين.
فالمضاربات المالية التي أعطت قيمة لبعض المؤسسات أعلى من قيمتها الحقيقية، وكذلك الرغبة المفرطة والملحة في استثمار القروض حتى على حساب زيادة فقر الفقراء، هما العاملان الحاسمان اللذان أفرزا هذه الأزمة.
أثبتت الأزمة الحالية كذلك وبشكل قاطع بطلان مقولة قدرة السوق الليبرالي على إفراز ما يسمى بالتعديل الذاتي (autorégulation) المرتبط بالعرض والطلب.
فبشهادة المتسببين في الأزمة ذاتهم وبشهادة ساسة الولايات المتحدة من الجمهوريين، بات تدخل الدولة لفرض الرقابة وتعديل الأسواق المالية أمرا حاسما وملاذا أخيرا.
ويمثل هذا التوجه نحو زيادة تدخل الدولة إقرارا بخلل مقولة التعديل الذاتي للسوق التي ترسخت منذ أزمة سنة 1929، لكن هذا الإقرار يحمل في طياته أسئلة عديدة حول الأسس الاجتماعية لليبرالية نفسها وتوزيع الأدوار بين المبادرة الفردية وبين دور المجموعة ممثلة في الدولة.
المال العام لإنقاذ ثراء النخبة
طرحت الأزمة الحالية مسألة البعد الأخلاقي في تنظيم أسواق المال، كما تمت الإشارة إلى ذلك، لكن هذا البعد تم تحويله عن مساره الطبيعي المرتبط بشرائح اجتماعية مهمشة نحو احترام أخلاقيات تضمن وجود النظام المالي وفاعلية أدائه.
إن ما يشد الانتباه من خلال تواتر مراحل الأزمة هو سرعة التحول الذي برز على مستوى التوجهات السياسية في الولايات المتحدة وفي أوروبا. فمن كان يصدق قبل أشهر أن الليبراليين الجدد المحيطين بجورج بوش سيهبون بكل قوة نحو سياسة التأمين؟
من كان يصدق أن بريطانيا ستقطع فجأة مع سياسة الخصخصة التي بدأت منذ عقود مع مرغريت تاتشر وتسارعت مع العماليين؟ من كان يصدق أن تطبق الدول الغربية سياسة التأميم (دون أن تسميها) بعد انهيار المعسكر الاشتراكي؟
فلفترة غير بعيدة، كان نيكولا ساركوزي قد ركز في حملته الانتخابية في فرنسا على دور العمل وعلى دور المبادرة الفردية والمؤسسات في إنعاش الاقتصاد. وفي هذا السياق سارع إلى تشجيع المستثمرين عبر العديد من الإعفاءات الضريبية مع تشديد الخناق على سياسة الدعم الاجتماعي التي تحظى بها الشرائح الفقيرة. ونفس هذا النهج كان قد سار عليه توني بلير ثم واصله غوردون براون في بريطانيا.
الغريب في الأمر أن نفس هذه الحكومات لم تبد نفس الحماسة لدعم صناديق التقاعد والضمان الصحي التي تشهد عجزا مزمنا. ففي فرنسا يتساءل المواطن العادي اليوم عن سر الضخ المالي الهائل لمساعدة البنوك المتضررة، في حين كان الوزير الأول فرانسوا فيون قد أعلن بداية العام الحالي أن خزينة الدولة فارغة وغير قادرة على تمويل سياسة التغطية الاجتماعية.
أما في الولايات المتحدة فكانت سياسة المكيالين التي اتبعها الجمهوريون أكثر وضوحا وفظاظة، إذ رفض هؤلاء مطالب الجمعيات وبعض مكونات المجتمع المدني الأميركي بتدخل الدولة لشراء بعض المستشفيات الخاصة وتوفير إمكانية العلاج لملايين الأميركيين المحرومين من التغطية الصحية نظرا لعدم انخراطهم في التأمين الصحي.
مقابل ذلك هبت إدارة جورج بوش مسرعة لإنقاذ السوق المالية وحماية المضاربين في البورصة. مع العلم أنه كان بإمكانها التدخل مع بداية أزمة الرهن العقاري لشراء المنازل المصادرة والتكفل بحل الأزمة الاجتماعية الناتجة عنها ودرء الأذى عن ملايين العائلات التي افترشت أرصفة الشوارع. لكنها آثرت موقف المراقب معتبرة ما يحصل مسألة تربط البنوك بزبائنها.
هذا ما يدفع إلى الاعتقاد بأن مقترح المرشح الجمهوري جون ماكين بشراء ديون العائلات الأميركية المتضررة مجرد إعلان انتخابي يدخل ضمن خانة الدعاية أكثر من كونه برنامجا انتخابيا ملزما.
لقد اكتملت هذه الصورة الكاريكاتورية عندما تم الإعلان عن الحوافز المالية الهائلة التي تمتع بها مديرو البنوك وكبار الصيارفة عند مغادرتهم مناصبهم.
لقد تخطت هذه الحوافز المسماة "المظلات المذهبة" (أو منحة مغادرة المنصب) كل حدود المعقول، خاصة أن هذه المنح غير مشروطة بالنتائج ولو تعلق الأمر بالإفلاس الكلي كما هو الحال في الأزمة الحالية.
لكن فظاظة الفاعلين في الأسواق المفلسة لم تتوقف عند حد ابتزاز مؤسساتهم، بل وصل الأمر إلى التلاعب حتى بأموال الدولة بعد أن تم تأميم هذه المؤسسات، إذ تمتع مديرو أحد البنوك الأميركية المؤممة وكبار موظفيه بعطلة نهاية أسبوع خيالية في نزل فاخر تم خلالها صرف ما يقارب نصف مليون دولار من المال العام.
يتأكد إجحاف السياسات الحالية في غياب أي اهتمام رسمي بالفئات المهمشة والهشة التي تمثل الأرضية الأولى لتحمل أعباء أي انهيار اقتصادي محتمل. فمن يتحدث اليوم عن جحافل الفقراء وعن صغار الموظفين الأميركيين الذين فقدوا مساكنهم؟
لا وجود في القرارات التي اتخذها زعماء الدول السبع الكبرى لأي طمأنة في مجال تأمين الشغل وحتى في ضمان أفق للمؤسسات الصغرى وللحرفيين.
فقد أعطت المبادرات المتتالية الانطباع بأن الدولة هبت لإنقاذ أصحاب رأس المال بآلاف مليارات الدولارات في الوقت الذي تقدر فيه منظمة الزراعة العالمية أن مبلغ خمسة مليارات دولار قادر على إنقاذ حياة عشرين مليون شخص مهددين بالموت جوعا.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ يجب التأكيد هنا أن مليارات الدولارات التي تم ضخها لإنعاش أسواق المال هي في واقع الأمر أموال الإنفاق العام المخصصة لخدمات الصحة والتعليم والتقاعد ودعم البنية التحتية.
ولهذا السبب سيلاحظ تراجع كبير في السنوات المقبلة في مجال الحماية الاجتماعية، مع تجميد للأجور في انتظار ازدهار اقتصادي قد لا يأتي.
ربما تمثلت النقطة الإيجابية لهذه الأزمة في إعادة طرح موضوع دور الدولة، والمال العام تحديدا، في النظام الليبرالي.
بطبيعة الحال يصعب اليوم الحديث عن بديل للنظام الليبرالي بشكل حاسم، فهذه المسألة متروكة لفعل التاريخ، لكن بالإمكان التفكير في أنظمة موازية قد تحد من انفراد حفنة من المتنفذين الاقتصاديين في مصير البشر.
ويمكن أن يلعب القطاع العام هذا الدور في كبح لجام ليبرالية ما انفكت تكشف عن وحشيتها شرط أن تتم عقلنة التسيير وربط أهدافه برهان العدالة الاجتماعية ورهان البيئة.
لقد خطفت هذه الأزمة الأضواء على الساحة الإعلامية بالنظر لخطورتها وبالنظر كذلك إلى التفرغ الكلي لأقطاب القرار السياسي العالمي لمواجهتها.
ومن المؤشرات على ذلك أن مرت تعيينات الفائزين بجائزة نوبل هذه السنة، وعلى غير العادة، في شكل أخبار متفرقة وثانوية بعد أن غمرتها أخبار داو جونز. إنها أزمة فاجأت الجميع في ظل واقع الاقتصاد الإنتاجي المتماسك، إلى حد ما، وفي ظل سرعة انتشارها.
لكن على الرغم من آنية هذا الحدث وبغض النظر عن التطورات اللاحقة المحتملة فإن مضامينه الأخلاقية وانعكاساته على المستوى الاجتماعي بدأت تفرض نفسها كضرورة ملحة.
أزمة مالية أم أزمة الليبرالية؟
بات من المعلوم أن الجذور المباشرة للأزمة المالية الحالية تعود إلى قضية القروض العقارية (Sub-primes) التي استفاد بموجبها صغار الموظفين الأميركيين وفقراء الأجراء والمتقاعدين من فرصة الحصول على مسكن مقابل ريع ربوي غير قار.
بدأ شبح الأزمة عندما بات من المؤكد أن أغلب المستفيدين من هذه القروض لم يعد بإمكانهم سداد دينهم بسبب الارتفاع المشط والفجائي لقيمة السداد الربوي الشهري المطلوب الذي تجاوز في بعض الحالات 70% من دخل المدينين.
كانت هذه النتيجة بمثابة الإشارة الأولى إلى وضع مالي غير عادي لا بد من معالجته بطريقة حكيمة تأخذ بعين الاعتبار البعد الاجتماعي، لكن الغريب في الأمر أن رد البنوك الأميركية المقرضة، مثل بنك فاني ماي وبنك لبمان براذرز، كان نهاية في العجرفة واللاإنسانية.
لقد طلب ممن عجز عن الدفع ترك منزله على الفور، وهذا ما حصل بالفعل على يد الشرطة الأميركية التي رافقت جحافل الفقراء الأميركيين نحو العراء.
المشكل أن هذه الكارثة الاجتماعية لم تحل صعوبات البنوك، بل على العكس سارعت في انهيارها، إذ فقدت المساكن المنشأة جانبا كبيرا من قيمتها منعكسة بذلك على قيمة أسهم هذه البنوك في البورصات، وتجنبت البنوك الأخرى إقراضها في إطار الديون البين بنكية.
وفي النهاية اكتمل المشهد بإعلان البنوك الأميركية وشركات التأمين المرتبطة مباشرة بقضية الديون العقارية إفلاسها، وتبع ذلك توقف شبه كلي للتعامل البين بنكي وفقدان الثقة في حركة الأسهم.
هذه هي أبرز حلقات هذا المسلسل المتسارع الأحداث. بقي السؤال الأهم وراء هذه الحيثيات والمتمثل في تقييم الأبعاد الاقتصادية للأزمة. هل أنها مجرد أزمة مالية ظرفية مرتبطة بخطأ معزول أم أنها أزمة هيكلية مرتبطة بطبيعة النظام الليبرالي ذاته؟
يروج ساسة البلدان المتقدة، وكذلك الاقتصاديون الليبراليون، تحليلا يرى أن الأزمة مرتبطة بالفعل بإستراتيجية استثمار خاطئة اعتمدتها بعض البنوك الأميركية. وتذهب هذه الأطراف أبعد من ذلك في اعتبار أن خطأ هذه البنوك يتمثل في إقراض الفقراء لكونهم شريحة غير مضمونة من ناحية سداد الديون.
وعلى الرغم من أن بعض هؤلاء يتحدث اليوم عن ضرورة إعطاء مسحة أخلاقية للرأسمال المالي، فإنهم يحصرون هذا البعد الأخلاقي في ضرورة احترام تداخل النظام المالي العالمي وتعقده، مما يستوجب الحيطة وعدم المغامرة غير المحسوبة في المضاربة.
بلغة أخرى فإن الهدف النهائي من هذه المسحة الأخلاقية هو ضبط مسؤولية الفاعلين الاقتصاديين باتجاه المحافظة على النظام المالي الكلي القائم.
لكن مثل هذه التبريرات تبدو متعارضة إلى حد كبير مع واقع الأزمة الحالية. ويبرز التعارض الأول بين اعتبار الأزمة ناجمة عن خطأ معزول، وبين سرعة انتشارها في العالم.
وأقل ما يمكن أن يقال هنا إن النظام الليبرالي الحالي هو نظام هش ما دام بنك واحد في العالم يمكن أن يحدث فعل لعبة الدومينو على المؤسسات الاقتصادية في شتى القارات.
يبدو التناقض واضحا كذلك من حيث اعتبار صغار الموظفين والعمال عالة على نظام الاقتراض وتناسي دورهم في تعزيز قدرات البنوك عن طريق الادخار والاستهلاك.
من جهة أخرى، يصعب الأخذ بمثل هذا التحليل إذا سحبناه على إطار جغرافي أوسع في ظل اقتصاد معولم. فلو همشنا بعض الفئات الاجتماعية من دائرة الاقتراض على صعيد دولة، ما الذي يمنع تهميش الدول الفقيرة من دائرة التعامل المالي العالمي؟ والحال أن الدول الكبرى، معتمدة على البنك العالمي وعلى صندوق النقد الدولي، ما فتئت تغرق هذه البلدان بقروضها وبشروط مشطة أدت إلى إفلاس العديد من الدول.
نضيف هنا أن هذا الإقرار بعدم تطابق الفقر مع الاستثمار المالي تكذبه على أرض الواقع تجربة محمد يونس الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد من خلال ما أنجزه مع غرامين بنك من استثمارات مع الأوساط الأكثر فقرا في بنغلاديش.
فقد بينت هذه التجربة أن المشكل الأساسي يكمن في تطابق الأهداف المالية للدين مع حد أدنى من اعتبار الأوضاع الاجتماعية للحرفاء.
إن التحليلات الليبرالية التي نسمعها اليوم تتفادى الخوض في عمق المسائل المتعلقة بالاستثمار وبالعلاقة بين الاقتصاد الحقيقي الإنتاجي والمضاربة المالية وكذلك بالتهميش المفرط للدولة ولدور الرقابة الجماعية على أسواق الأعمال.
لقد أفلتت كل هذه المسائل من عقالها منذ نهاية الثمانينيات ونهاية الحرب الباردة، وما نتج عن ذلك من انفراد الليبرالية المطلقة في ساحة المبادرة السياسية والاقتصادية.
ولا يمكن أن ينكر أحد أن البنوك التي تورطت في قروض سابرايمز فعلت ذلك ضمن عقلية النظام الليبرالي نفسه التي تلهث وراء رفع رقم المعاملات وتحسين الأرباح.
ووصل الأمر إلى حد أن التطبيقات العملية لهذه العقلية في المجال المالي أصبحت في تعارض تام مع واقع الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي من ناحية، وكذلك مع إعادة هيكلة الاقتصادات داخل الدول الكبرى وما نتج عن ذلك من زيادة هشاشة وضع صغار الموظفين.
فالمضاربات المالية التي أعطت قيمة لبعض المؤسسات أعلى من قيمتها الحقيقية، وكذلك الرغبة المفرطة والملحة في استثمار القروض حتى على حساب زيادة فقر الفقراء، هما العاملان الحاسمان اللذان أفرزا هذه الأزمة.
أثبتت الأزمة الحالية كذلك وبشكل قاطع بطلان مقولة قدرة السوق الليبرالي على إفراز ما يسمى بالتعديل الذاتي (autorégulation) المرتبط بالعرض والطلب.
فبشهادة المتسببين في الأزمة ذاتهم وبشهادة ساسة الولايات المتحدة من الجمهوريين، بات تدخل الدولة لفرض الرقابة وتعديل الأسواق المالية أمرا حاسما وملاذا أخيرا.
ويمثل هذا التوجه نحو زيادة تدخل الدولة إقرارا بخلل مقولة التعديل الذاتي للسوق التي ترسخت منذ أزمة سنة 1929، لكن هذا الإقرار يحمل في طياته أسئلة عديدة حول الأسس الاجتماعية لليبرالية نفسها وتوزيع الأدوار بين المبادرة الفردية وبين دور المجموعة ممثلة في الدولة.
المال العام لإنقاذ ثراء النخبة
طرحت الأزمة الحالية مسألة البعد الأخلاقي في تنظيم أسواق المال، كما تمت الإشارة إلى ذلك، لكن هذا البعد تم تحويله عن مساره الطبيعي المرتبط بشرائح اجتماعية مهمشة نحو احترام أخلاقيات تضمن وجود النظام المالي وفاعلية أدائه.
إن ما يشد الانتباه من خلال تواتر مراحل الأزمة هو سرعة التحول الذي برز على مستوى التوجهات السياسية في الولايات المتحدة وفي أوروبا. فمن كان يصدق قبل أشهر أن الليبراليين الجدد المحيطين بجورج بوش سيهبون بكل قوة نحو سياسة التأمين؟
من كان يصدق أن بريطانيا ستقطع فجأة مع سياسة الخصخصة التي بدأت منذ عقود مع مرغريت تاتشر وتسارعت مع العماليين؟ من كان يصدق أن تطبق الدول الغربية سياسة التأميم (دون أن تسميها) بعد انهيار المعسكر الاشتراكي؟
فلفترة غير بعيدة، كان نيكولا ساركوزي قد ركز في حملته الانتخابية في فرنسا على دور العمل وعلى دور المبادرة الفردية والمؤسسات في إنعاش الاقتصاد. وفي هذا السياق سارع إلى تشجيع المستثمرين عبر العديد من الإعفاءات الضريبية مع تشديد الخناق على سياسة الدعم الاجتماعي التي تحظى بها الشرائح الفقيرة. ونفس هذا النهج كان قد سار عليه توني بلير ثم واصله غوردون براون في بريطانيا.
الغريب في الأمر أن نفس هذه الحكومات لم تبد نفس الحماسة لدعم صناديق التقاعد والضمان الصحي التي تشهد عجزا مزمنا. ففي فرنسا يتساءل المواطن العادي اليوم عن سر الضخ المالي الهائل لمساعدة البنوك المتضررة، في حين كان الوزير الأول فرانسوا فيون قد أعلن بداية العام الحالي أن خزينة الدولة فارغة وغير قادرة على تمويل سياسة التغطية الاجتماعية.
أما في الولايات المتحدة فكانت سياسة المكيالين التي اتبعها الجمهوريون أكثر وضوحا وفظاظة، إذ رفض هؤلاء مطالب الجمعيات وبعض مكونات المجتمع المدني الأميركي بتدخل الدولة لشراء بعض المستشفيات الخاصة وتوفير إمكانية العلاج لملايين الأميركيين المحرومين من التغطية الصحية نظرا لعدم انخراطهم في التأمين الصحي.
مقابل ذلك هبت إدارة جورج بوش مسرعة لإنقاذ السوق المالية وحماية المضاربين في البورصة. مع العلم أنه كان بإمكانها التدخل مع بداية أزمة الرهن العقاري لشراء المنازل المصادرة والتكفل بحل الأزمة الاجتماعية الناتجة عنها ودرء الأذى عن ملايين العائلات التي افترشت أرصفة الشوارع. لكنها آثرت موقف المراقب معتبرة ما يحصل مسألة تربط البنوك بزبائنها.
هذا ما يدفع إلى الاعتقاد بأن مقترح المرشح الجمهوري جون ماكين بشراء ديون العائلات الأميركية المتضررة مجرد إعلان انتخابي يدخل ضمن خانة الدعاية أكثر من كونه برنامجا انتخابيا ملزما.
لقد اكتملت هذه الصورة الكاريكاتورية عندما تم الإعلان عن الحوافز المالية الهائلة التي تمتع بها مديرو البنوك وكبار الصيارفة عند مغادرتهم مناصبهم.
لقد تخطت هذه الحوافز المسماة "المظلات المذهبة" (أو منحة مغادرة المنصب) كل حدود المعقول، خاصة أن هذه المنح غير مشروطة بالنتائج ولو تعلق الأمر بالإفلاس الكلي كما هو الحال في الأزمة الحالية.
لكن فظاظة الفاعلين في الأسواق المفلسة لم تتوقف عند حد ابتزاز مؤسساتهم، بل وصل الأمر إلى التلاعب حتى بأموال الدولة بعد أن تم تأميم هذه المؤسسات، إذ تمتع مديرو أحد البنوك الأميركية المؤممة وكبار موظفيه بعطلة نهاية أسبوع خيالية في نزل فاخر تم خلالها صرف ما يقارب نصف مليون دولار من المال العام.
يتأكد إجحاف السياسات الحالية في غياب أي اهتمام رسمي بالفئات المهمشة والهشة التي تمثل الأرضية الأولى لتحمل أعباء أي انهيار اقتصادي محتمل. فمن يتحدث اليوم عن جحافل الفقراء وعن صغار الموظفين الأميركيين الذين فقدوا مساكنهم؟
لا وجود في القرارات التي اتخذها زعماء الدول السبع الكبرى لأي طمأنة في مجال تأمين الشغل وحتى في ضمان أفق للمؤسسات الصغرى وللحرفيين.
فقد أعطت المبادرات المتتالية الانطباع بأن الدولة هبت لإنقاذ أصحاب رأس المال بآلاف مليارات الدولارات في الوقت الذي تقدر فيه منظمة الزراعة العالمية أن مبلغ خمسة مليارات دولار قادر على إنقاذ حياة عشرين مليون شخص مهددين بالموت جوعا.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ يجب التأكيد هنا أن مليارات الدولارات التي تم ضخها لإنعاش أسواق المال هي في واقع الأمر أموال الإنفاق العام المخصصة لخدمات الصحة والتعليم والتقاعد ودعم البنية التحتية.
ولهذا السبب سيلاحظ تراجع كبير في السنوات المقبلة في مجال الحماية الاجتماعية، مع تجميد للأجور في انتظار ازدهار اقتصادي قد لا يأتي.
ربما تمثلت النقطة الإيجابية لهذه الأزمة في إعادة طرح موضوع دور الدولة، والمال العام تحديدا، في النظام الليبرالي.
بطبيعة الحال يصعب اليوم الحديث عن بديل للنظام الليبرالي بشكل حاسم، فهذه المسألة متروكة لفعل التاريخ، لكن بالإمكان التفكير في أنظمة موازية قد تحد من انفراد حفنة من المتنفذين الاقتصاديين في مصير البشر.
ويمكن أن يلعب القطاع العام هذا الدور في كبح لجام ليبرالية ما انفكت تكشف عن وحشيتها شرط أن تتم عقلنة التسيير وربط أهدافه برهان العدالة الاجتماعية ورهان البيئة.