أحمد مروان كلش
وليست
مصادفة نيل هذا الرجل لقب شيخ كار المصرفيين، وليس مستغرباً أن يكون صاحب
الثلاثة والسبعين عاماً، ولا يزال قائماً في العمل المصرفي منذ خمسين
عاماً تقريباً، وقاده في سورية فور تخرجه من جامعة دمشق كلية الحقوق حيث
اتبع دورة في الإدارة المصرفية «ميدلند بنك» في لندن عام 1962، ثم عمل في
العمل المصرفي مع مصرف الوحدة العربية حتى عام 1967حتى أسند إليه تأسيس
المصرف العقاري، ثم تأسيس مصرف التوفير، وسمّي إضافةً إلى عمله مستشاراً
لوزير الاقتصاد حتى تقاعده عام 2002، ولكن سرعان ما أسند إليه مقعد مستشار
وزير المالية لشؤون المصارف، وما زال على رأس عمله يقود دفة العمل المصرفي
بخبرته الطويلة ودأبه المستمر رغم السنين الطويلة من العمل.
والحديث
عن شخصية نادرة مثل شخصية شيخ الكار يطول ويطول كثيراً، ويأتي حديثي عنه
ليس بمحض صدفة أو قراءة سريعة؛ لأنني راقبته في مواقف كثيرة كونه يستقبلني
يومياً بابتسامته العفوية منذ الثامنة صباحاً كعادته لنشرب القهوة معاً في
مكتبه قبل انطلاقتي لعملي، فخبرت هذا الرجل عن قرب، لذا فإن حديثي عنه ليس
إطراءً له ولا مبالغة في تقدير حقه، فتاريخه الطويل يشهد له أكثر مني
وخبرته الواسعة أثبتت حضور شخصيته في محافل عربية كثيرة، فهو ينتمي إلى
رواد الحركة المصرفية العربية، والمهام التي أوكلت إليه تدل على أنه رجل
دولة من الطراز الأول، حيث مثل سورية «نائب محافظ» في الصندوق العربي
للإنماء الاقتصادي والاجتماعي «المقر الرئيسي في السودان»، وعضو مجلس رجال
الأعمال السوري اللبناني لقطاع المصارف ولا يزال، ورئيس مجلس إدارة المصرف
السوري الأردني «مقره عمان»، ونائب رئيس مجلس الإدارة لغرفة التجارة بدمشق
ممثل القطاع العام لمدة عشرين عاماً، ونائب رئيس مجلس الإدارة لشركة الشرق
للسياحة والسفر، ونائب رئيس مجلس إدارة شركة الكرنك، وعضو في اتحاد
المصارف العربية «بيروت» وجمعية المصرفيين العرب «لندن» ولا يزال حتى
تاريخه، وممثل وسيط لدى اتحاد المصارف العربية ولا يزال.. إلخ، وباختصار
يمكننا القول إنه رجل دولة من الطراز الأول.
ورغم
انشغال شيخ الكار بمهام كثيرة عبر كل هذه السنين، فهو شديد الحرص في
تعامله مع الآخرين في شؤون العمل وغيرها، ولم يغير طريقته في التعامل مع
موظفيه أو مراجعيه وحتى زواره، فباب مكتبه لا يغلق أبداً، ويستقبلهم
بابتسامته المعهودة، ويستمع جيداً لمطالبهم ويساعد على حلها ولو كانت خارج
نطاق عمله من خلال الاتصال مع أصدقائه المنتشرين في كل مرافق الدولة
لتسهيل أمورهم، فهو يعرف حق الناس عليه، ويقدر الصغير قبل الكبير؛ لهذا
يتمتع الرجل بصيت ذائع أنه رجل اجتماعي لا يشق له غبار.
وكثيراً
ما أتساءل كم هي حاجة مؤسسات الوطن لمثل هذه الشخصية اليوم؟ فما السر وراء
تكوينها على هذا النحو؟ وهنا يحضرني قول والدي - رحمه الله -: «عاشر ابن
الناس تسعد» وهذا القول ينطبق على ابن العائلة السليلة في العراقة والكرم
وحسن الضيافة، فهو ابن الأديب الكبير عبد القادر عياش، وحفيد الأستاذ
الكبير محمد عياش رئيس تكتل العشائر في البرلمان السوري في خمسينيات
وستينيات القرن الماضي.
فالرجل
ينتمي إلى عائلة معروفة بعراقتها ووطنيتها وحسن أخلاق أبنائها وهو المؤهل
بشكل جيد للإدارة؛ لذلك لم تتوانَ الحكومة السورية بإسناد تأسيس المصرف
العقاري إليه، وهو بدوره لم يتوانَ منذ ذلك الوقت عن بذل كل جهده ووقته في
سبيل انطلاقة المصرف، وخاصةً أنها كانت تجربة جديدة في سورية بعد تأميم
المصارف فكان مصرفاً رائداً يشهد له الجميع بذلك، حتى الحكومات المتوالية
أثنت على جهود شيخ الكار الذي كان السبّاق في المبادرة في دعم المشاريع
الرئيسة في سورية، فموّل بناء مشروع دمر رغم معارضة الكثيرين في الحكومة
آنذاك، كما موّل بناء المشاريع السياحية والجمعيات السكنية على امتداد
سورية، هذا إضافةً إلى تمويل الأفراد لشراء مساكن خاصة بهم، فكان يحرص
دائماً على تقديم كافة الإمكانات المتاحة لديه لخدمة عملائه، وتسهيل
الإجراءات عليهم.
وليس
مبالغاً كل ما يقال عن هذا الرجل، فقد أدرك بحسه الرهيف وتربيته الخلاقة
أن احترام الناس ورعايتهم واجب مقدس عليه، فكيف يكون واجبه إذا كان يعتلي
موقعاً من المفروض أن يكون فيه لخدمة الناس، وهنا نستدل بأن شخصية المرء
يبنيها بيته ونشأته، فيعكسها خلال أداء عمله، ويصقلها علمه وتجربته
وينميها واجبه اتجاه الآخرين.
واسمحوا
لي أن أروي هذه القصة عن شيخ الكار لتشاركوني الرأي، فقد ساقتني الصدفة
لأكون شاهداً على مواقف كثيرة حدثت معه، وهذه القصة منها: فحين تواجدي في
مكتب صديق لي وهو مدير في إحدى المؤسسات العامة في مدينة اللاذقية، اعترته
موجة غضب إثر شجار على الهاتف بينه وبين أحد ما في الوزارة التابع لها،
وفور انتهاء المكالمة قال لي صديقي: «يلي أخذته من الوظيفة يجو ياخذوه،
وشو ما بدون يساووا»، وهنا تنهد قائلاً: «ولك والله لولا نق زوجتي وفضل
رجل اسمه فاروق عياش لما كان عندي بيت يؤويني مع أولادي اليوم» وهذا
المدير لا يعلم أني أعرف الأستاذ فاروق، ثم استطرد قائلاً: «ولو بعرفو
حياً يرزق اليوم، والله لأزوره في بيته لتحيته» فسألته وأنا أجهز رقم
الأستاذ فاروق للاتصال به: وماذا قدم لك هذا الرجل؟ فقاطعني وهو يصفر:
«قال شو قدم لي قال.. يا رجل أنا في العمل الوظيفي منذ ثلاثين عاماً، ولم
يمر عليّ رجل دولة مثل الأستاذ فاروق، ولك الرجل شو خلوق ومتواضع، وكم
حاولت أن أكون مثله ولكن ما استطعت»، فابتسمت له وتوقفت عن طلب الرقم
لأسمع باقي الحكاية، فقلت له مازحاً: إلى هذه الدرجة، فانتفض من وراء
مكتبه وهو يصفر ويشير بيده: «اسكت يا رجل، بدي إحكي لك حكايتو معي..».
خلاصة
روايته أن زوجة المدير في سبعينيات القرن الماضي أخذت تشن حرباً عليه
لشراء منزل في دمشق مكان تعيينه، مما دفعه للاستعانة بالمصرف العقاري
آنذاك لشراء البيت، وحين ذهابه إلى هناك لم يصدق ما رآه، فباب مكتب شيخ
الكار مفتوح وزواره الداخل داخل والخارج خارج، فقال لنفسه: «شو هالمكتب
الشوربة»، وخاصةً أنه اعتاد أن يرى مكاتب المدراء العامين محروسة بأكثر من
مدير مكتب، ولكنه تفاجأ بشيخ الكار وهو يستقبله بابتسامته العريضة وكأنه
يعرفه منذ مئة عام حسب تعبيره، وجلست وهو يراقب الجمع الغفير في المكتب
واستمع لحواراتهم مع شيخ الكار، وقال في نفسه: «هذا مدير عام والا مختار؟»
ولم يشعر كيف طرح طلبه على الأستاذ فاروق، وهو الذي كان محرجاً جداً من
ذلك بحضور كل الموجودين، ووقف صديقي المدير فجأة ومثّل لي كيف تصرف
الأستاذ فاروق حيال طلبه، فقد طلب منه إملاء الأوراق الخاصة بالقرض وإحضار
بيان براتبه في اليوم التالي لاستلام مبلغ القرض، هنا صفق صديقي وهو يصفر
بشدة وتابع: «يا رجل لم أصدق ما جرى معي، خرجت من عند الأستاذ وأنا أكلم
نفسي، وكلي حيرة من أمري، من أين يعرفني هذا الرجل حتى يخدمني هذه
الخدمة..؟»، وهنا لا يعرف صديقي أن شيخ الكار عامله كما يعامل كل عملاء
المصرف، فأخذت أضحك قائلاً له: وهل أخذت القرض..، فقاطعني وهو يصفر
كعادته: «طبعاً أخذته وفي مكتب الأستاذ فاروق»، حاولت أن أتكلم فقاطعني
مجدداً: «ولك نعم، والله العظيم قبضت المبلغ في مكتبه..» وقاطعته أنا
بدوري وأنا أطلب رقم الأستاذ فاروق من دون أن يدري: وهلق شو بدك تساوي لو
عرفت إنو.. وهنا قاطعني صوت الأستاذ فاروق وهو يجيب على الموبايل، فحييته
وقلت له: يا أستاذ أنا عند صديق لي يود أن يسلم عليك، أكلم الأستاذ وأنا
أراقب صديقي المدير الذي استغرب من كلامي، فقال لي وأنا أمد له الموبايل:
«مين طلبت؟»، قلت له وأنا أضحك: الأستاذ فاروق معك على الخط، فخطف
الموبايل مني ووقف وهو يضحك كطفل صغير نال هديته، ومن حينها كلما قصد دمشق
يزور صديقه القديم الأستاذ فاورق.. كما لا بد أن أروي قصة أخرى عن هذا
الرجل - إن طال الكلام - لأن بصماته واضحة عند أشقائنا العرب أيضاً، ومن
منا لا يذكر أغنية جوزيف صقر «تلفن عياش تلفن» الشهيرة، ولهذه الأغنية قصة
يطول سردها، ولكنها دليل آخر على أن شيخ الكار لا يمكن إلا أن يكون رجلاً
منفتحاً على الجميع، فشخصية رجال الدولة - كما يقول علم السياسة - شخصية
متكاملة ديناميكياً لا يمكن تجزئتها.
وأخيراً
لا بد أن نتساءل كيف بنيت شخصية شيخ الكار؟ ذلك الموظف في مؤسسات الدولة
آنذاك، وما السر في عدم وجودها في الجهاز الحكومي اليوم؟ هل يا ترى شيخ
الكار صنع نفسه بنفسه؟ أم أن مناخ الجهاز الحكومي في ستينيات القرن الماضي
كان أفضل حالاً منه اليوم حتى استطاع صنع شيخ الكار وأمثاله، ونذكر منهم:
الدكتور محمد العمادي، واللواء علي ظاظا وزير الداخلية، والأستاذ عبد الله
الخاني وزير السياحة، ود.رفعت عقاد ود.عزو الطرابلسي ود.عدنان الفرا، وهم
جميعاً شغلوا منصب حاكم مصرف سورية المركزي، ود.راتب الشلاح رئيس غرفة
التجارة بدمشق ورئيس اتحاد الغرف التجارية السورية، وغيرهم كثيرون..
ولكن
إن افترضنا جدلاً وجود الكثير من شخصية شيخ الكار، وممن ذكروا يديرون
مؤسسات الدولة الآن، ألا يجدر بنا الافتراض أيضاً أن حال هذه المؤسسات
سيكون أفضل بكثير؟ لماذا إذاً لا يصنع الجهاز الحكومي نسخاً عن هذه
الشخصيات مع العلم أنه استطاع صنعهم في ستينيات القرن الماضي؟ الجواب برأيي واضح تماماً.. وهـو ( ؟؟؟؟؟ ) فهل توافقوني الرأي ؟
سيريافيس بالتعاون مع صحيفة الرأي السورية
وليست
مصادفة نيل هذا الرجل لقب شيخ كار المصرفيين، وليس مستغرباً أن يكون صاحب
الثلاثة والسبعين عاماً، ولا يزال قائماً في العمل المصرفي منذ خمسين
عاماً تقريباً، وقاده في سورية فور تخرجه من جامعة دمشق كلية الحقوق حيث
اتبع دورة في الإدارة المصرفية «ميدلند بنك» في لندن عام 1962، ثم عمل في
العمل المصرفي مع مصرف الوحدة العربية حتى عام 1967حتى أسند إليه تأسيس
المصرف العقاري، ثم تأسيس مصرف التوفير، وسمّي إضافةً إلى عمله مستشاراً
لوزير الاقتصاد حتى تقاعده عام 2002، ولكن سرعان ما أسند إليه مقعد مستشار
وزير المالية لشؤون المصارف، وما زال على رأس عمله يقود دفة العمل المصرفي
بخبرته الطويلة ودأبه المستمر رغم السنين الطويلة من العمل.
والحديث
عن شخصية نادرة مثل شخصية شيخ الكار يطول ويطول كثيراً، ويأتي حديثي عنه
ليس بمحض صدفة أو قراءة سريعة؛ لأنني راقبته في مواقف كثيرة كونه يستقبلني
يومياً بابتسامته العفوية منذ الثامنة صباحاً كعادته لنشرب القهوة معاً في
مكتبه قبل انطلاقتي لعملي، فخبرت هذا الرجل عن قرب، لذا فإن حديثي عنه ليس
إطراءً له ولا مبالغة في تقدير حقه، فتاريخه الطويل يشهد له أكثر مني
وخبرته الواسعة أثبتت حضور شخصيته في محافل عربية كثيرة، فهو ينتمي إلى
رواد الحركة المصرفية العربية، والمهام التي أوكلت إليه تدل على أنه رجل
دولة من الطراز الأول، حيث مثل سورية «نائب محافظ» في الصندوق العربي
للإنماء الاقتصادي والاجتماعي «المقر الرئيسي في السودان»، وعضو مجلس رجال
الأعمال السوري اللبناني لقطاع المصارف ولا يزال، ورئيس مجلس إدارة المصرف
السوري الأردني «مقره عمان»، ونائب رئيس مجلس الإدارة لغرفة التجارة بدمشق
ممثل القطاع العام لمدة عشرين عاماً، ونائب رئيس مجلس الإدارة لشركة الشرق
للسياحة والسفر، ونائب رئيس مجلس إدارة شركة الكرنك، وعضو في اتحاد
المصارف العربية «بيروت» وجمعية المصرفيين العرب «لندن» ولا يزال حتى
تاريخه، وممثل وسيط لدى اتحاد المصارف العربية ولا يزال.. إلخ، وباختصار
يمكننا القول إنه رجل دولة من الطراز الأول.
ورغم
انشغال شيخ الكار بمهام كثيرة عبر كل هذه السنين، فهو شديد الحرص في
تعامله مع الآخرين في شؤون العمل وغيرها، ولم يغير طريقته في التعامل مع
موظفيه أو مراجعيه وحتى زواره، فباب مكتبه لا يغلق أبداً، ويستقبلهم
بابتسامته المعهودة، ويستمع جيداً لمطالبهم ويساعد على حلها ولو كانت خارج
نطاق عمله من خلال الاتصال مع أصدقائه المنتشرين في كل مرافق الدولة
لتسهيل أمورهم، فهو يعرف حق الناس عليه، ويقدر الصغير قبل الكبير؛ لهذا
يتمتع الرجل بصيت ذائع أنه رجل اجتماعي لا يشق له غبار.
وكثيراً
ما أتساءل كم هي حاجة مؤسسات الوطن لمثل هذه الشخصية اليوم؟ فما السر وراء
تكوينها على هذا النحو؟ وهنا يحضرني قول والدي - رحمه الله -: «عاشر ابن
الناس تسعد» وهذا القول ينطبق على ابن العائلة السليلة في العراقة والكرم
وحسن الضيافة، فهو ابن الأديب الكبير عبد القادر عياش، وحفيد الأستاذ
الكبير محمد عياش رئيس تكتل العشائر في البرلمان السوري في خمسينيات
وستينيات القرن الماضي.
فالرجل
ينتمي إلى عائلة معروفة بعراقتها ووطنيتها وحسن أخلاق أبنائها وهو المؤهل
بشكل جيد للإدارة؛ لذلك لم تتوانَ الحكومة السورية بإسناد تأسيس المصرف
العقاري إليه، وهو بدوره لم يتوانَ منذ ذلك الوقت عن بذل كل جهده ووقته في
سبيل انطلاقة المصرف، وخاصةً أنها كانت تجربة جديدة في سورية بعد تأميم
المصارف فكان مصرفاً رائداً يشهد له الجميع بذلك، حتى الحكومات المتوالية
أثنت على جهود شيخ الكار الذي كان السبّاق في المبادرة في دعم المشاريع
الرئيسة في سورية، فموّل بناء مشروع دمر رغم معارضة الكثيرين في الحكومة
آنذاك، كما موّل بناء المشاريع السياحية والجمعيات السكنية على امتداد
سورية، هذا إضافةً إلى تمويل الأفراد لشراء مساكن خاصة بهم، فكان يحرص
دائماً على تقديم كافة الإمكانات المتاحة لديه لخدمة عملائه، وتسهيل
الإجراءات عليهم.
وليس
مبالغاً كل ما يقال عن هذا الرجل، فقد أدرك بحسه الرهيف وتربيته الخلاقة
أن احترام الناس ورعايتهم واجب مقدس عليه، فكيف يكون واجبه إذا كان يعتلي
موقعاً من المفروض أن يكون فيه لخدمة الناس، وهنا نستدل بأن شخصية المرء
يبنيها بيته ونشأته، فيعكسها خلال أداء عمله، ويصقلها علمه وتجربته
وينميها واجبه اتجاه الآخرين.
واسمحوا
لي أن أروي هذه القصة عن شيخ الكار لتشاركوني الرأي، فقد ساقتني الصدفة
لأكون شاهداً على مواقف كثيرة حدثت معه، وهذه القصة منها: فحين تواجدي في
مكتب صديق لي وهو مدير في إحدى المؤسسات العامة في مدينة اللاذقية، اعترته
موجة غضب إثر شجار على الهاتف بينه وبين أحد ما في الوزارة التابع لها،
وفور انتهاء المكالمة قال لي صديقي: «يلي أخذته من الوظيفة يجو ياخذوه،
وشو ما بدون يساووا»، وهنا تنهد قائلاً: «ولك والله لولا نق زوجتي وفضل
رجل اسمه فاروق عياش لما كان عندي بيت يؤويني مع أولادي اليوم» وهذا
المدير لا يعلم أني أعرف الأستاذ فاروق، ثم استطرد قائلاً: «ولو بعرفو
حياً يرزق اليوم، والله لأزوره في بيته لتحيته» فسألته وأنا أجهز رقم
الأستاذ فاروق للاتصال به: وماذا قدم لك هذا الرجل؟ فقاطعني وهو يصفر:
«قال شو قدم لي قال.. يا رجل أنا في العمل الوظيفي منذ ثلاثين عاماً، ولم
يمر عليّ رجل دولة مثل الأستاذ فاروق، ولك الرجل شو خلوق ومتواضع، وكم
حاولت أن أكون مثله ولكن ما استطعت»، فابتسمت له وتوقفت عن طلب الرقم
لأسمع باقي الحكاية، فقلت له مازحاً: إلى هذه الدرجة، فانتفض من وراء
مكتبه وهو يصفر ويشير بيده: «اسكت يا رجل، بدي إحكي لك حكايتو معي..».
خلاصة
روايته أن زوجة المدير في سبعينيات القرن الماضي أخذت تشن حرباً عليه
لشراء منزل في دمشق مكان تعيينه، مما دفعه للاستعانة بالمصرف العقاري
آنذاك لشراء البيت، وحين ذهابه إلى هناك لم يصدق ما رآه، فباب مكتب شيخ
الكار مفتوح وزواره الداخل داخل والخارج خارج، فقال لنفسه: «شو هالمكتب
الشوربة»، وخاصةً أنه اعتاد أن يرى مكاتب المدراء العامين محروسة بأكثر من
مدير مكتب، ولكنه تفاجأ بشيخ الكار وهو يستقبله بابتسامته العريضة وكأنه
يعرفه منذ مئة عام حسب تعبيره، وجلست وهو يراقب الجمع الغفير في المكتب
واستمع لحواراتهم مع شيخ الكار، وقال في نفسه: «هذا مدير عام والا مختار؟»
ولم يشعر كيف طرح طلبه على الأستاذ فاروق، وهو الذي كان محرجاً جداً من
ذلك بحضور كل الموجودين، ووقف صديقي المدير فجأة ومثّل لي كيف تصرف
الأستاذ فاروق حيال طلبه، فقد طلب منه إملاء الأوراق الخاصة بالقرض وإحضار
بيان براتبه في اليوم التالي لاستلام مبلغ القرض، هنا صفق صديقي وهو يصفر
بشدة وتابع: «يا رجل لم أصدق ما جرى معي، خرجت من عند الأستاذ وأنا أكلم
نفسي، وكلي حيرة من أمري، من أين يعرفني هذا الرجل حتى يخدمني هذه
الخدمة..؟»، وهنا لا يعرف صديقي أن شيخ الكار عامله كما يعامل كل عملاء
المصرف، فأخذت أضحك قائلاً له: وهل أخذت القرض..، فقاطعني وهو يصفر
كعادته: «طبعاً أخذته وفي مكتب الأستاذ فاروق»، حاولت أن أتكلم فقاطعني
مجدداً: «ولك نعم، والله العظيم قبضت المبلغ في مكتبه..» وقاطعته أنا
بدوري وأنا أطلب رقم الأستاذ فاروق من دون أن يدري: وهلق شو بدك تساوي لو
عرفت إنو.. وهنا قاطعني صوت الأستاذ فاروق وهو يجيب على الموبايل، فحييته
وقلت له: يا أستاذ أنا عند صديق لي يود أن يسلم عليك، أكلم الأستاذ وأنا
أراقب صديقي المدير الذي استغرب من كلامي، فقال لي وأنا أمد له الموبايل:
«مين طلبت؟»، قلت له وأنا أضحك: الأستاذ فاروق معك على الخط، فخطف
الموبايل مني ووقف وهو يضحك كطفل صغير نال هديته، ومن حينها كلما قصد دمشق
يزور صديقه القديم الأستاذ فاورق.. كما لا بد أن أروي قصة أخرى عن هذا
الرجل - إن طال الكلام - لأن بصماته واضحة عند أشقائنا العرب أيضاً، ومن
منا لا يذكر أغنية جوزيف صقر «تلفن عياش تلفن» الشهيرة، ولهذه الأغنية قصة
يطول سردها، ولكنها دليل آخر على أن شيخ الكار لا يمكن إلا أن يكون رجلاً
منفتحاً على الجميع، فشخصية رجال الدولة - كما يقول علم السياسة - شخصية
متكاملة ديناميكياً لا يمكن تجزئتها.
وأخيراً
لا بد أن نتساءل كيف بنيت شخصية شيخ الكار؟ ذلك الموظف في مؤسسات الدولة
آنذاك، وما السر في عدم وجودها في الجهاز الحكومي اليوم؟ هل يا ترى شيخ
الكار صنع نفسه بنفسه؟ أم أن مناخ الجهاز الحكومي في ستينيات القرن الماضي
كان أفضل حالاً منه اليوم حتى استطاع صنع شيخ الكار وأمثاله، ونذكر منهم:
الدكتور محمد العمادي، واللواء علي ظاظا وزير الداخلية، والأستاذ عبد الله
الخاني وزير السياحة، ود.رفعت عقاد ود.عزو الطرابلسي ود.عدنان الفرا، وهم
جميعاً شغلوا منصب حاكم مصرف سورية المركزي، ود.راتب الشلاح رئيس غرفة
التجارة بدمشق ورئيس اتحاد الغرف التجارية السورية، وغيرهم كثيرون..
ولكن
إن افترضنا جدلاً وجود الكثير من شخصية شيخ الكار، وممن ذكروا يديرون
مؤسسات الدولة الآن، ألا يجدر بنا الافتراض أيضاً أن حال هذه المؤسسات
سيكون أفضل بكثير؟ لماذا إذاً لا يصنع الجهاز الحكومي نسخاً عن هذه
الشخصيات مع العلم أنه استطاع صنعهم في ستينيات القرن الماضي؟ الجواب برأيي واضح تماماً.. وهـو ( ؟؟؟؟؟ ) فهل توافقوني الرأي ؟
سيريافيس بالتعاون مع صحيفة الرأي السورية