هل انتهت مرحلة الجمود العربي؟
بقلم: حسين علي الحمداني ـ الجمود هو سمة المنطقة العربية منذ عقود طويلة وهذا ما أكده صموئيل هانتغنتون في كتابه «الموجة الثالثة» موجها انتقادا لاذعا للمنطقة العربية حيث اعتبرها بأنها أكثر المناطق جموداً وعدم قبول للتغيير ويصعب تحولها للديمقراطية.
والنقد مبني بالتأكيد على مجموعة من المشاهد الملموسة والمتمثلة بآليات التغيير في أي بلد عربي حيث تعتمد على المؤسسة العسكرية، وظلت هذه الآلية قائمة حتى وقت قريب، مما ولد هيمنة شبه مطلقة على الحكم وفلسفته في الكثير من الدول العربية التي مرت بمرحلتين مهمتين الأولى في صراعها مع الدول الاستعمارية لكي تنال الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية ، والمرحلة الأخرى تمثلت بصراع العسكر لإفتكاك السلطة وإنشاء نظم جمهورية على أنقاض الملكية كما حصل في مصر 1952 والعراق 1958 وليبيا 1969 ، دون السعي لتأسيس نظم ديمقراطية بوقت مبكر أو حتى لإقامة حكومات مدنية بمعناها المتداول ، بل تحولت هذه الدول إلى دولة يحكمها العسكر وقوانينهم العرفية وأحكام الطوارئ وتغلبت الروح العسكرية على المفهوم العام للدولة وإدارتها مما ولد بالتأكيد حملة من الأخطاء في هذا المفصل أو ذاك من مفاصل الحياة المتشعبة في بلداننا العربية مع غياب تام للدساتير التي تنظم العمل والحياة والحقوق والواجبات.
وأحيانا كثيرة كانت تتحول هذه النظم من أيدلوجيا إلى نقيضتها بحكم الحاجة للبقاء حينا ، وحينا آخر من باب ( التغيير ) فنجد بأن كل الأنظمة العربية ابتدأت ( اشتراكية ) وأصدرت قوانين راقية جدا كقوانين الإصلاح الزراعي في مصر والعراق وسوريا ، تأميم النفط في العراق والجزائر وقناة السويس في مصر ، الاهتمام بشرائح المجتمع ، لكن هذا كان في المراحل الأولى ، تم الانتقال بعد ذلك للرأسمالية والخصخصة لتنسف ما بنته وطوعت الشعب عليه فتحولت الدولة من دولة ترعى الشعب إلى دولة رجال أعمال تهمين وتسيطر على مقدرات البلد الاقتصادية وتتحكم حتى باستيراد السجائر وتحول أبناء الحكام والوزراء والمقربين منهم لتجار يتلاعبون حتى بقيمة عملتهم الوطنية ويحتكرون الدولار وتجارته رغم إن بعض الدول تمنع التعاطي بهذه العملة على مواطنيها كما كان موجودا في العراق أيام حكم الطاغية وأعوانه ، لكن هذا المنع لا يشمل الدائرة الضيقة من أبناء المسؤولين.
وهنا نجد بأن النظم الحاكمة دخلت مرحلة ( الفساد ) وأسست له أرضية صلبة ركائزها النظام وعناصره وهذه الحالة كانت السبب الرئيس لتفشي أمراض كثيرة في المجتمع في مقدمتها البطالة ، سوء الخدمات ، ذوبان مؤسسات الدولة لحساب رجال الأعمال ، بروز تشوهات كثيرة في بنية المجتمع وظهور ما يمكن تسميته بالمدن العشوائية القريبة جدا من مدن الصفيح ، اختفاء الطبقة الوسطى في المجتمع ، إذ تحول المجتمع العربي إلى طبقتين ، أغنياء جدا وفقراء جدا، وهذا بحد ذاته تشوه اجتماعي كبير ما كان ليحصل لولا (الفساد الكبير).
وبما إن آليات التغيير بأبعادها التي أشرنا إليها تجمعت كلها بيد النظام فكان من الضرورات إيجاد بعد جديد من شأنه أن يقوض الأبعاد الأخرى التي ظلت مهيمنة طيلة أكثر من نصف قرن من الزمان على حراك المجتمع وثقافته ، هذا البعد تمثل في الشباب، الشريحة الأكثر تضررا في المجتمع العربي ، خاصة وإن الشباب يمثلون أكثر من 60% من سكان الوطن العربي ، هؤلاء أكملوا تعليمهم ولم يجدوا فرص عمل تتناسب وما تعلموه أكاديميا ولم يكن أمامهم سوى أن يصنعوا ثورة ، معتمدين على آليات عصرهم الحالية، متجاوزين الآليات القديمة التي ربما لن تنتج لهم ما يطمحون له من تغيير ليس في النظام السياسي فقط بل في نظم الحياة الأخرى وفي مقدمتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
والبعد الشبابي هذا كان واضحا وجليا في ثورتي تونس ومصر وأحدث ما فاق التصورات ووضع استراتيجة شبابية جديدة لمواجهة الظلم والاستبداد بطريقة حضارية قائمة على ركائز سلمية تمنحه قوة ، وفي نفس الوقت منهيا مرحلة الخضوع والخنوع و( المشي جنب الحيطان )، وفاتحا مرحلة جديدة من التعاطي الإيجابي بين السلطة بوصفها خادمة للشعب وبين الشعب بوصفه مصدرا للسلطات.
وما يمكن أن نستنتجه من ثورتي تونس ومصر إنها اعتمدت في انطلاقتهما على مشاكل المجتمع ، ومتخذة من الشباب قاعدة عريضة وقوية لها ، مسخرة في نفس الوقت عاملي الإعلام والتعاطف العالمي، ولا يمكن لنا هنا أن نتجاهل دور الإعلام الفضائي في إنجاح الانتفاضتين بسرعة كبيرة ، وبالتالي فإن العالم لم يتفاجأ بسقوط بن علي ومبارك لأنه كان ينتظر ذلك ويتابع ولادة الثورة لحظة بلحظة ، وهذا السقوط لم يأت إلا من خلال التفكير بالتغيير ومغادرة مناطق الجمود في العقل العربي الذي بدأ يتحرر من قيوده.
كاتب وباحث عراقي
بقلم: حسين علي الحمداني ـ الجمود هو سمة المنطقة العربية منذ عقود طويلة وهذا ما أكده صموئيل هانتغنتون في كتابه «الموجة الثالثة» موجها انتقادا لاذعا للمنطقة العربية حيث اعتبرها بأنها أكثر المناطق جموداً وعدم قبول للتغيير ويصعب تحولها للديمقراطية.
والنقد مبني بالتأكيد على مجموعة من المشاهد الملموسة والمتمثلة بآليات التغيير في أي بلد عربي حيث تعتمد على المؤسسة العسكرية، وظلت هذه الآلية قائمة حتى وقت قريب، مما ولد هيمنة شبه مطلقة على الحكم وفلسفته في الكثير من الدول العربية التي مرت بمرحلتين مهمتين الأولى في صراعها مع الدول الاستعمارية لكي تنال الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية ، والمرحلة الأخرى تمثلت بصراع العسكر لإفتكاك السلطة وإنشاء نظم جمهورية على أنقاض الملكية كما حصل في مصر 1952 والعراق 1958 وليبيا 1969 ، دون السعي لتأسيس نظم ديمقراطية بوقت مبكر أو حتى لإقامة حكومات مدنية بمعناها المتداول ، بل تحولت هذه الدول إلى دولة يحكمها العسكر وقوانينهم العرفية وأحكام الطوارئ وتغلبت الروح العسكرية على المفهوم العام للدولة وإدارتها مما ولد بالتأكيد حملة من الأخطاء في هذا المفصل أو ذاك من مفاصل الحياة المتشعبة في بلداننا العربية مع غياب تام للدساتير التي تنظم العمل والحياة والحقوق والواجبات.
وأحيانا كثيرة كانت تتحول هذه النظم من أيدلوجيا إلى نقيضتها بحكم الحاجة للبقاء حينا ، وحينا آخر من باب ( التغيير ) فنجد بأن كل الأنظمة العربية ابتدأت ( اشتراكية ) وأصدرت قوانين راقية جدا كقوانين الإصلاح الزراعي في مصر والعراق وسوريا ، تأميم النفط في العراق والجزائر وقناة السويس في مصر ، الاهتمام بشرائح المجتمع ، لكن هذا كان في المراحل الأولى ، تم الانتقال بعد ذلك للرأسمالية والخصخصة لتنسف ما بنته وطوعت الشعب عليه فتحولت الدولة من دولة ترعى الشعب إلى دولة رجال أعمال تهمين وتسيطر على مقدرات البلد الاقتصادية وتتحكم حتى باستيراد السجائر وتحول أبناء الحكام والوزراء والمقربين منهم لتجار يتلاعبون حتى بقيمة عملتهم الوطنية ويحتكرون الدولار وتجارته رغم إن بعض الدول تمنع التعاطي بهذه العملة على مواطنيها كما كان موجودا في العراق أيام حكم الطاغية وأعوانه ، لكن هذا المنع لا يشمل الدائرة الضيقة من أبناء المسؤولين.
وهنا نجد بأن النظم الحاكمة دخلت مرحلة ( الفساد ) وأسست له أرضية صلبة ركائزها النظام وعناصره وهذه الحالة كانت السبب الرئيس لتفشي أمراض كثيرة في المجتمع في مقدمتها البطالة ، سوء الخدمات ، ذوبان مؤسسات الدولة لحساب رجال الأعمال ، بروز تشوهات كثيرة في بنية المجتمع وظهور ما يمكن تسميته بالمدن العشوائية القريبة جدا من مدن الصفيح ، اختفاء الطبقة الوسطى في المجتمع ، إذ تحول المجتمع العربي إلى طبقتين ، أغنياء جدا وفقراء جدا، وهذا بحد ذاته تشوه اجتماعي كبير ما كان ليحصل لولا (الفساد الكبير).
وبما إن آليات التغيير بأبعادها التي أشرنا إليها تجمعت كلها بيد النظام فكان من الضرورات إيجاد بعد جديد من شأنه أن يقوض الأبعاد الأخرى التي ظلت مهيمنة طيلة أكثر من نصف قرن من الزمان على حراك المجتمع وثقافته ، هذا البعد تمثل في الشباب، الشريحة الأكثر تضررا في المجتمع العربي ، خاصة وإن الشباب يمثلون أكثر من 60% من سكان الوطن العربي ، هؤلاء أكملوا تعليمهم ولم يجدوا فرص عمل تتناسب وما تعلموه أكاديميا ولم يكن أمامهم سوى أن يصنعوا ثورة ، معتمدين على آليات عصرهم الحالية، متجاوزين الآليات القديمة التي ربما لن تنتج لهم ما يطمحون له من تغيير ليس في النظام السياسي فقط بل في نظم الحياة الأخرى وفي مقدمتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
والبعد الشبابي هذا كان واضحا وجليا في ثورتي تونس ومصر وأحدث ما فاق التصورات ووضع استراتيجة شبابية جديدة لمواجهة الظلم والاستبداد بطريقة حضارية قائمة على ركائز سلمية تمنحه قوة ، وفي نفس الوقت منهيا مرحلة الخضوع والخنوع و( المشي جنب الحيطان )، وفاتحا مرحلة جديدة من التعاطي الإيجابي بين السلطة بوصفها خادمة للشعب وبين الشعب بوصفه مصدرا للسلطات.
وما يمكن أن نستنتجه من ثورتي تونس ومصر إنها اعتمدت في انطلاقتهما على مشاكل المجتمع ، ومتخذة من الشباب قاعدة عريضة وقوية لها ، مسخرة في نفس الوقت عاملي الإعلام والتعاطف العالمي، ولا يمكن لنا هنا أن نتجاهل دور الإعلام الفضائي في إنجاح الانتفاضتين بسرعة كبيرة ، وبالتالي فإن العالم لم يتفاجأ بسقوط بن علي ومبارك لأنه كان ينتظر ذلك ويتابع ولادة الثورة لحظة بلحظة ، وهذا السقوط لم يأت إلا من خلال التفكير بالتغيير ومغادرة مناطق الجمود في العقل العربي الذي بدأ يتحرر من قيوده.
كاتب وباحث عراقي