حين يقرأ إنسان مثقف متوسط الملاحق الاقتصادية عن أزمة البنوك ولا يفهم ما يقال فإن ذلك لا يعود لكون هذا المجال مقصورا على العباقرة، مقفلا على غيرهم، فهو ليس حتى بعلم. وهنالك شك فيما إذا كان الاقتصاد وإدارة الأعمال أصلا علوما.
ولا شك أنها مجالات معرفية مهنية تستخدم شذرات من عدة علوم بما فيها الإحصاء والرياضيات ونظرية الاحتمالات، ولكنها لا تكفي لفهم ما يجري، ناهيك عن التوقع والتنبؤ العلميين.. وهي على كل حال لا تستطيع الاستغناء عن العقل السليم. وهذا الأخير يفضل أن يفهم ما يقال ويقرأ.
حول فن التعابير الفنية
ولكن هذه اللغة المطلسمة المستخدمة في الملاحق الاقتصادية والمؤلفة من تعابير لا تشكل مصطلحات علمية بل تسميات لمسميات متفق عليها واختصارات غير معروفة الأصل تخفي جهل المراسل الاقتصادي أحيانا، وهي مسخَّرة كعدة تعبيرية مهنية لسماسرة البورصة لا يفهمها حتى المستثمرون عندهم، فهي أشبه بلغة ناد مغلق أو لغة كهنة في معبد الاقتصاد.
طبعا يمكن تعلم هذه اللغة، ولكنها مغلقة على من لم يتعلمها ولم ينضم بعد إلى النادي في أي لحظة معطاة، ويبرر احتكار معرفتها وجود المهنة والمختصين.. وعلى كل حال ليس هذا الاستحواذ على تعابير لا يهتم أحد بشرحها للقارئ منفصلا عن الأزمة بل هو من التعبيرات الرئيسية عن الواقع الذي أدى إليها.
إنه واقع نخبة من المديرين والسماسرة ووكلاء أصحاب رؤوس الأموال والمتصرفين بصناديق التقاعد وغيرهم، تعيش عالما منفصلا قائما بذاته.
أولا، يبدو في هذا العالم وكأن النقود تفرخ نقودا خارج عملية الإنتاج المادي الذي يراكم قيما مادية حقيقية، وتنفصل فيه مراكمة المال عن الثروة الحقيقية القائمة في الاقتصاد والنشاط الاقتصادي والاكتشافات العلمية وغيرها، حتى يبدو كأنه إذا عرف الراغب في الإثراء أين يضع النقود في الوقت المناسب فسوف تضع هي بيضا من ذهب.
هذا السلوك المؤدي إلى الاستثمار في المال دون معرفة شيء عن النشاط الاقتصادي الذي هو الأصل ومنه تنتج الأرباح، وما يترتب على هذا الجهل وهذا السلوك المقامر المعتبر مناقب في هذه الثقافة، كلها ليست محايدة في الأزمة بل هي أصلها وأساسها.
وثانيا، ينفصل هذا العالم غير المنتج ليعيش في قوانينه الخاصة وتعابيره وأنماط سلوكه والمجازفات والأرباح بعيدا عن الرقابة المجتمعية.
فالناس وحتى المشرعون حين يستدعون للتشريع بالكاد يفهمون ما يدور في الأيام العادية، ولكن حين تقع أزمة داخل هذا العالم المركب من واقع وخيال يتضرر الجميع لأن هذا العالم يتحكم في قنوات أو أنابيب تتدفق عبرها العمليات الاقتصادية المترجمة إلى مال.
يربح الناس في هذا القطاع أكثر مما يربحون في الإنتاج والخدمات، مع أن الإنتاج والاستثمار والاقتراض لغرض الاستثمار هو أصل ربحهم، والباقي خيال.
ويتحول رأس المال المالي إلى قوة غير ديمقراطية في كافة المجتمعات ليس فقط لأنه يشكل قوة ضغط هائلة على الحكومات عبر حركة رؤوس الأموال، بل لأنه أبعد اللوبيات الرأسمالية عن عملية الإنتاج المادي وعن حياة المجتمعات، ولأن قوته وسيطرته لا تقفز عن القطاعات الاقتصادية الأخرى، فتأثيره عليها عبر الفوائد والإقراض لا تضاهيها قوة أي قطاع اقتصادي، ولأن السيطرة على الشركات التي تصدر إعلاما وتملك وسائل إعلام وتؤثر على أفكار الناس هي من مكونات قوته.
لا يعيش نظام رأسمالي متطور دون منظومة مالية بنكية. وتتلخص الخدمة التي يبيعها في بيع الزمن. يقرض البنك الإنسان الحقيقي أو الاعتباري زمنا ثمينا، أو للدقة يبيعه إمكانية استخدام المال لفترة من الوقت. إذ لا يوجد تزامن بين الاستثمار ومردوده، وبين شراء البضاعة وبيعها، وحتى بين العمل والراتب.
فالمستثمر يقترض جزءا من رأس المال المستثمر على الأقل حتى تثمر العملية فيسد جزءا من الاستثمار، والتاجر يشتري البضاعة ولكنه ينتظر بيعها.. وهكذا.
وفي جميع الحالات البنك يبيع مالا (ماله ومال الآخرين المودع عنده) ولكن الزيادة في قيمة المال التي تؤدي إلى الربح لا تنتج عن عملية تفريخ أو تفقيس أو انقسام خلايا مالية كالأميبا، بل مصدر زيادة المال هو زيادة القيمة في العمل: عملية الإنتاج والنقل وإيصال البضاعة وتسويقها.. وكل ما يضاف من قيم.
وتتركب من هذه العمليات البسيطة مع تعقد الحياة آلاف العمليات التي ينسى فيها الأصل، ويبنى عالم رأس مال مالي قائم بذاته، يقترض لكي يقترض، ويبيع الدين، ويبيع احتمالات مستقبيلة مشروطة بتحقق صفقة وهكذا..
لكي نفهم قليلا علينا أولا أن نعيد الأمر إلى العقل السليم والبسيط فهو أهم أداة في فهم العمليات الاقتصادية.
يعرف أي مواطن يملك رأس إنسان، وليس بالضرورة رأس مال، أنه يمكنه أن يعيش على الدين من البنك من انتهاء السيولة بين يديه وحتى وصول معاشه أو أجرته أو دخله.
يجسر الحساب المدين في البنك هذا العجز مرة واحدة وقد يحمله المواطن معه، يستنسخه، عدة سنوات ما دام يدفعه كل شهر فتتجدد الحاجة في نهاية كل شهر دون أن يتغير مبلغ العجز. ولكن لا يجوز أن يتراكم ويتضخم مبلغ الدين، أي أن يكون عجزا شهريا متتكررا وليس لمرة واحدة. ففي مثل هذه الحال مثلا حين لا يكفي الدخل كله لتغطية العجز، قد يتوقف البنك عن الإقراض ويحجز على ممتلكات المواطن أو يستخدم غيرها من الأدوات التي خطرت ببال المشرع بما فيها الغرامة والسجن.
ولنتخيل للحظة أن شعبا كاملا يعيش أعلى من مستوى إنتاجه خلال العام، إن كان ذلك في الاستهلاك أو المصاريف العسكرية أو "البَطَر" والثقافة الاستهلاكية عموما، وذلك في نظام ديمقراطي تتملق فيه الأحزاب الناخب ولا تقول له الحقيقة.
لا بد أن تتحول دولته إلى دولة مدينة لكي تمول الفرق بين ما ينتج هذا الشعب وما يستهلك. وينطبق على دينها وتراكمه ما ينطبق على المواطن، ولأنه لن يحاسبها شرطي دولي (خاصة إذا كانت هي الشرطي الدولي) فهي تستمر على الدرب هذا حتى وقوع الكارثة.
يبدو الأمر واضحا في أن أغنى دولة في العالم هي أيضا أكثر الدول دينا للدول الأخرى. فالشعب الأميركي يعيش بمستوى المعيشة الأوروبي ولكن بأسعار العالم الثالث في النفط والمأكل والملبس والسكن..
ولا يمكن أن يستمر هذا الأمر لفترة طويلة دون أزمات، لا بد أن يسد أحد هذا الفارق، وليس كله مؤلف من بيوت تم شراؤها ولم يتمكن الناس من سد ثمنها ويمكن الحجز عليها (نظريا فقط) مثلا، بل إن جزءا كبيرا من الفارق، أو العجز، استهلك وذهب مع مياه الصرف الصحي أو حلق إلى طبقة الأوزون مساهما في ثقبها.
والتضخم لا يحل هذه الأزمة إلا على المدى القصير، وكذلك بيع سندات الخزينة إلى دول أخرى، ولا حتى تخفيض سعر الدولار.. لا بد أن تتجلى الأزمة في النهاية على شكل تقليص المصاريف العامة ووضع قسم من عبء الدين على المواطنين على شكل سياسة ضرائبية معقولة كما في بعض الدول الأوروبية.
وما فعله بوش هو عكس ذلك إذ خفف الضرائب على رأس المال، وشجع البنوك على سياسة إقراض غير مسؤولة.
أزمة سيولة
ولنتخيل أيضا أن تتصرف البنوك في هذه الدولة بموجب هذه الثقافة الاقتصادية، إذا صح التعبير، فتسعى للإقراض بشكل غير مفحوص، ولتحقيق الأرباح من الفوائد العالية على القروض الطويلة المدى بتشجيع الناس على شراء البيوت وبنائها بمنح التسهيلات على تلقي قرض بنكي. أي أضف هنا الفوضى في سياسية الإقراض البنكية وجشع البنوك ورغبتها في تحقيق الأرباح باستخدام الودائع المتوفرة لديها.
(وما دام موضوع قروض الإسكان قد ذكر فإن هذه السياسة بدأت بتشجيع من الإدارة عام 1998 في مرحلة كلينتون وحوَّلها بوش إلى سياسة رسمية).
أشارت الإحصائيات عشية انهيار بنك ليمان براذرز واتضاح عمق وشمولية الأزمة البنكية أن البنوك الأميركية أقرضت 94 سنتا على كل دولار في حوزتها (يجب أن نضيف أنه في حوزتها نظريا)، وأن البنوك الأوروبية أقرضت 1.4 يورو على كل يورو، أي أن البنوك الأوروبية معرضة لأزمة عدم السداد أكثر من غيرها.
ولكن من أين تقرض البنوك؟ تسجل البنوك أرباحا خيالية كل عام، وهي على رأس القطاعات الاقتصادية الرابحة. ومن هنا ربما يصعق المواطن العادي من إفلاس أي بنك أو إغلاقه.
والبنوك حين تقرض المال فإنما تتصرف بأموال ليست ملكا لها، وهي تحصل على حصة الأسد من الفائدة الناجمة عن عملية الإقراض.
خذ مثلا بنك ليمان براذرز الذي سجل قرار عدم إنقاذه من قبل الخزينة الأميركية بداية الانهيار، لقد وجد هذا البنك مدينا بنحو 613 مليار دولار منها 160 مليارا لزبائن خارج الولايات المتحدة أودعوا أموالا فيه، أفرادا وصناديق، ومنها صناديق تقاعد أوروبية.
حين تبدأ أزمة السيولة نتيجة لعدم تمكن المدينين من سداد قروضهم أو حساباتهم البنكية المدنية، ويبدأ الناس بالمطالبة بودائعهم تحصل أزمة قد تؤدي إلى الإفلاس، فالبنك لا يجد ما يعيد به النقود.
وليس كل قرض يذهب إلى الاستثمار في الصناعة والتجارة ولشراء العقارات رغم ما فيها من مجازفة، فقسم من القروض يذهب للاستثمار في سوق المال ويتحول بذاته إلى الإقراض أحيانا، فيضاعف المجازفة وآثارها.
في حالة فقدان السيولة تقوم البنوك بالاقتراض من بنوك أخرى، وهذه الرغبة في الاقتراض من بنوك أخرى ترفع الفائدة البنكية، وبرفعها تقل قدرة الناس العاديين على سداد القروض.. وحين تتفاقم الأزمة تبيع البنوك أوراقا مالية للناس، ثم حين تقفز الأزمة درجة أعلى تفقد هذه الأوراق جاذبيتها وتبيع البنوك ديونها لمضاربين مكتفية بنسب أقل من الربح.
يجري هذا التراكم الذي يضخم الأزمة ولا يحلها طوال سنين دون أن يصل إلى الملاحق الاقتصادية ناهيك عن نشرات الأخبار.
ويسمع الناس بالأزمة عندما تستنفد هذه الوسائل ويصبح على الدولة أن تقرر أن تكفل الديون أو البنك برمته، أو تسدد ديونه. هنا يسمع الجمهور بالأزمة.
وبإمكان المرء أن يتخيل ماذا تعني أزمة بترليونات الدولارات.. وماذا يعني نقص السيولة وانسداد مجرى المال في عروق الاقتصاد.
فانهيار ليمان وتهديد زملائه بالانهيار أدى إلى عدم ثقة بالبنوك وسحب ودائع وتفاقم أزمة السيولة، ولا شك أن الأزمة مالية حقيقية ضربت وسوف تضرب في أوروبا واليابان وفي السوق المالي الرأسمالي العالمي برمته. وهنالك سوق عالمي من هذا النوع.
تتعقد الصورة أكثر بسبب وجود ما يسمى بالمشتقات التي تهدف إلى تقليل مجازفة طرف في تعاقد على شكل فيوتزر وأوبشنز وسوابس وغيرها، منها أيضا مشتقات خاصة بتقليل مجازفة الدين ديبت ديرافتفز القائمة على ممتلكات حقيقية أو وهمية.. دعك عزيزي القارئ من هذه التعابير فلن تحتاجها، ولكنها تزيد المجازفة لمجمل السوق المالي والمجتمع برمته لأنها تخلق قيما وهمية.
وظيفة البنك الاقتصادية هي المجازفة وإدارة المجازفة، وجعلها محتملة ما بين الإقراض وبيع الوقت لرأسمال المال الاقتصادي وبين تحقيق النتائج. وحين يخفق البنك في المهمة يدفع سوق المال وبالتالي الاقتصاد والمجتمع الثمن.
وطبعا سوف تتحول الأزمة المالية إلى أزمة اقتصادية. ويبقى السؤال حول حجمها.
وهذا هو الفرق بين مواطن يعلن إفلاسه ولا يسدد دينه ودولة تعاقبه بالسجن، إذا لم تجد ما تحجز عليه، وبين نظام بنكي مالي يعني إفلاسه فقدان السيولة من أنابيب الاقتصاد وعرقلة العملية الاقتصادية برمتها، من البيع والشراء وحتى دفع الرواتب.
هنا لا تستطيع الدول الوقوف مكتوفة وولوج مناقشة نظرية منقطعة عن الدنيا كما يجري في بعض الصحف العربية، من نوع: هل يعني تدخل الدولة أم لا يعني انهيار نظام السوق، أو هل هو خطة اشتراكية؟ وهذا هو نوع النقاش الدائر على الخطوات التي اتخذتها الإدارة الأميركية بضخ 640 مليار دولار إلى عروق النظام البنكي، وحول خطابات ساركوزي اليميني المحافظ الجديد والتي تبدو فجأة يسارية لأنها تدعو إلى تدخل الدولة.
هذه خطوات تتخذها الحكومات للحفاظ على النظام الاقتصادي السائد، وهو نظام رأسمالي. وهي تتخذ لحمايته من سوقه المالي الذي أدى الدور الذي كان يؤديه سوق البضائع في الأزمات الدورية في القرن التاسع عشر نتيجة لعدم التوافق الدوري بين العرض والطلب.. ودورات التضخم، والنمو والكساد والبطالة.
لا علاقة لهذه الخطوات المصممة لإنقاذ النظام الرأسمالي البنكي التي سوف يتبعها بعد سنوات تطويره بمجموعة قيود وتشريعات وأنظمة، مستفيدة من الأزمة الحالية، بالنقاش حول الرأسمالية والاشتراكية، فهذا نقاش دائر ضمن الرأسمالية.
ومثلا نحن نشهد الآن عملية توحيد لبنوك بحيث تسيطر خمس مؤسسات مالية على الودائع في الولايات المتحدة بعد أن قاومت بنوك بشراء الديون المضمونة من أخرى أو توحدت معها في الأشهر الأخيرة.
حول المقارنات
طبعا لا بأس بسجن مدير بنك، كما يسجن مواطن مدين، ولكن على الدولة أن تتخذ إجراءات أخرى لأن ممتلكات البنوك وعملها، خلافا لمصالح المواطن، متعلقة بمصالح الناس كافة وليس فقط بإثراء الفرد ذاته وإهماله الإجرامي.
لو بقيت الأزمة محصورة في طبقة البنوك ومديريها وأصحابها وفئة المضاربين الكبار في البورصات لما اهتم أحد بمصيرهم، ولكن الأزمة المالية تتحول إلى أزمة اقتصادية، لأن الانسداد المالي الحاصل نفسه يؤدي إلى عرقلة العمليات الاقتصادية الجارية، وإلى تأجيل مشاريع وإلغاء أخرى لانعدام الثقة، أو لانعدام السيولة، ولكن أيضا كنتيجة لخطوات علاج الأزمة ذاتها على المدى القصير.
فالدولة تمول العلاج بإنقاذ البنوك من دافع الضرائب ما يعني زيادة الجباية من الناس، وهذا بدوره يضيف إلى إبطاء الحركة الاقتصادية في الأسواق المتعثرة في الطريق إلى الكساد، وبعد الكساد البطالة. ويتوقع أن ترتفع في أميركا العام القادم لتصل إلى 10% من قوة العمل. وهنالك أخبار متتابعة عن تقليص شركات صناعية كبرى خطوط إنتاجها.
ولكن العلاج ممكن. وهذه ليست أول أزمة في الاقتصاد الرأسمالي. المهم أن بنية هذا الاقتصاد تتغير بعد كل أزمة، وأداة التغيير هي النضال الاجتماعي والنقابي والبرلمانات والتشريعات ومجموعات الضغط وخوف أصحاب رؤوس الأموال من تكرار التجربة أو عواقبها، واضطرار رأس المال إلى أن يتكيف.
لقد نشأت الأزمة المدمرة تلك عام 1929 بعد انهيار بنك كريديت أنشتالت النمساوي وتفاعل الانهيار مع أزمة البورصة في نيويورك.
هناك كانت عملية الاقتراض تكفي كي يضع المرء المال في شركات في البورصة، ثم يترك القدرة التي يمنحها رأس المال على المضاربة تفعل فعلها في ربح متصاعد. وهو ما سمى "ليفرج" في البورصة، إنه يضاعف الأرباح حين يحقق أرباحا، ولأنها وهمية فهو يضاعف الخسائر حين يخسر.
إذ يمكِّن هذا النظام من يملك مبلغا معينا أن يشتري أسهما في شركات بأضعاف هذا المبلغ نتيجة لتمويل من مختلف الاتجاهات، أو نتيجة للتيقن من قدرته على السداد من الأرباح ذاتها.
يحقق هذا الطريق أرباحا خيالية، وهي خيالية بمعنى حجمها المبالغ فيه إذا قبض صاحبها المبلغ و"نفذ بجلده" في الوقت المناسب كما في كازينو قبل أن يبدأ بالخسارة، وهي خيالية أيضا بمعنى غير واقعية.
وطبعا تحول المضاربون، شخوص هذه العملية، إلى أبطال ثقافة وحضارة منذ عهد تاتشر، وبعضهم يصمم تقليعات نمط حياة للشباب وأرباح سهلة وتخصصات مهنية لجيل بأكمله. ثم حين تحل الخسائر تكون أيضا خيالية، لأنه لا يخسر فقط ما ربح على رأسماله بل يخسر رأس المال نفسه ويبقى مدينا.
ومن يقارن الأزمة الحالية بأزمة عام 1929 لا يخطئ فقط في فهم تلك بنيويا ولكنه يخطئ إذا اعتقد أنه بذلك يضخم الموضوع أو أنه يقصد بذلك نهاية الرأسمالية. فقد خرج النظام الرأسمالي بعدها أقوى مما كان. ولكن الثمن كان أزمات اجتماعية واقتصادية عنيفة وملايين الضحايا.
لقد وصلت البطالة في بعض الدول إلى ثلث الأيدي العاملة، كما تقلص حجم الاقتصاد الأميركي بالربع خلال تلك السنوات، وأدى الكساد إلى تسجيل إفقار واسع على حافة الجوع في بلدان متطورة.
لقد اضطر رأس المال إلى أن يتغير بنيويا بعدها. وقد تجسد التغيير في "نيو ديل" وسياسات روزفلت، والإنجازات النقابية في أميركا، وفي المعالجات الاقتصادية النازية للأزمة، التي انتشلت الاقتصاد عبر مشاريع الدولة، خاصة في البنى التحتية والمواصلات وبناء الجيش، وبواسطة التحالف بين الدولة ورأس المال الصناعي الاحتكاري.. وأيضا بثمن قيام الدولة الشمولية وبواسطة الحرب التي دمرت كل شيء من جديد.
والحقيقة أن جذور عودة العالمية إلى الأزمة الحالية تعود إلى تخلي الولايات المتحدة عام 1971 عن التغيرات التي استنتجتها المنظومة العالمية من أزمة 1929-1934 التي هزت النظام الرأسمالي كله، والتي تجلت في منظومة بريتون وودز الاقتصادية التي اتفق عليها بين بريطانيا والولايات المتحدة ثم أقرها 730 موفدا من 44 دولة في مؤتمر في هامشير بعد الحرب الثانية.
وربما يكون من الرمزي أن نتذكر اليوم أن المفاوض البريطاني على الاتفاقية كان الاقتصادي الشهير كينز الداعي لتدخل الدولة الواسع في الاقتصاد، والذي استفاد من نظرياته الاقتصاد الألماني للخروج من الأزمة قبل الحرب.
لقد استنتجت هذه الدول من أزمة الثلاثينيات بعد عمل سياسي ونقابي ديمقراطي واسع وبعد تحول راديكالي ديمقراطي يساري في الرأي العام، وبعد حروب دامية ومدمرة أن عليها أن تنظم سوق المال وعملياته وتقيده، وأن تنسق أسعار العملات بشكل ثابت نسبة إلى الذهب، كما أقرت مجموعة من القيود على رأس المال البنكي.
ولكن الولايات المتحدة حررت الدولار من ربطه بالذهب عام 1971 وحولته إلى مرجع لقياس العملات الأخرى بدل الذهب.
نحن نعرف الآن أن الأزمة الحالية عميقة، ولكنها ليست مقدمة لتغير نحو نظام اقتصادي آخر غير مطروح. فالتنافس الانتخابي في الولايات المتحدة يدور ضمن نفس حزب رأس المال بجناحيه الجمهوري والديمقراطي، ونعرف أن لدى النظام أدوات أنجع بكثير في معالجة الأزمة مما كان قائما في بداية الثلاثينيات.
ولكننا نعرف أيضا أن المنظومة الرأسمالية التي صمتت طويلا على ما يجري في أميركا من ناحية حرية رأس المال المالي ومناوراته ومضارباته، وعلى المديونية الأميركية على حساب الدول الأخرى لن تصمت أكثر.
كما نعرف أن تحولا سوف يجري في الرأي العام باتجاه دعم تدخل الدولة في تنظيم اقتصاد السوق وفي تقديم الضمانات للمواطن.
ونعرف أيضا أن الجمهور الأميركي يميل إلى انتخاب من سوف يجمل صورة أميركا عالميا في هذه الظروف، ونعرف أن الدول الأقل تضررا هي تلك الأبعد عن مركز الزلزال، وإذا كانت لديها سيولة وقوة اقتصادية وسياسية تدعم هذه السيولة فسوف تستغل الفرص كي تشتري في الغرب.
ونعرف كما في حالة نهوض روسيا العسكري السياسي في جورجيا أن قوة الدولة الوطنية سوف تزداد تجاه الداخل والخارج في الاقتصاد، لتصب كلها ضد فكرة الإمبراطورية..
هذه كلها مقدمات تسهل التغيير، ولكن التغيير نفسه يأتي بوسائل ومظاهر لا تخطر ببالنا.
ولا شك أنها مجالات معرفية مهنية تستخدم شذرات من عدة علوم بما فيها الإحصاء والرياضيات ونظرية الاحتمالات، ولكنها لا تكفي لفهم ما يجري، ناهيك عن التوقع والتنبؤ العلميين.. وهي على كل حال لا تستطيع الاستغناء عن العقل السليم. وهذا الأخير يفضل أن يفهم ما يقال ويقرأ.
حول فن التعابير الفنية
ولكن هذه اللغة المطلسمة المستخدمة في الملاحق الاقتصادية والمؤلفة من تعابير لا تشكل مصطلحات علمية بل تسميات لمسميات متفق عليها واختصارات غير معروفة الأصل تخفي جهل المراسل الاقتصادي أحيانا، وهي مسخَّرة كعدة تعبيرية مهنية لسماسرة البورصة لا يفهمها حتى المستثمرون عندهم، فهي أشبه بلغة ناد مغلق أو لغة كهنة في معبد الاقتصاد.
طبعا يمكن تعلم هذه اللغة، ولكنها مغلقة على من لم يتعلمها ولم ينضم بعد إلى النادي في أي لحظة معطاة، ويبرر احتكار معرفتها وجود المهنة والمختصين.. وعلى كل حال ليس هذا الاستحواذ على تعابير لا يهتم أحد بشرحها للقارئ منفصلا عن الأزمة بل هو من التعبيرات الرئيسية عن الواقع الذي أدى إليها.
إنه واقع نخبة من المديرين والسماسرة ووكلاء أصحاب رؤوس الأموال والمتصرفين بصناديق التقاعد وغيرهم، تعيش عالما منفصلا قائما بذاته.
أولا، يبدو في هذا العالم وكأن النقود تفرخ نقودا خارج عملية الإنتاج المادي الذي يراكم قيما مادية حقيقية، وتنفصل فيه مراكمة المال عن الثروة الحقيقية القائمة في الاقتصاد والنشاط الاقتصادي والاكتشافات العلمية وغيرها، حتى يبدو كأنه إذا عرف الراغب في الإثراء أين يضع النقود في الوقت المناسب فسوف تضع هي بيضا من ذهب.
هذا السلوك المؤدي إلى الاستثمار في المال دون معرفة شيء عن النشاط الاقتصادي الذي هو الأصل ومنه تنتج الأرباح، وما يترتب على هذا الجهل وهذا السلوك المقامر المعتبر مناقب في هذه الثقافة، كلها ليست محايدة في الأزمة بل هي أصلها وأساسها.
وثانيا، ينفصل هذا العالم غير المنتج ليعيش في قوانينه الخاصة وتعابيره وأنماط سلوكه والمجازفات والأرباح بعيدا عن الرقابة المجتمعية.
فالناس وحتى المشرعون حين يستدعون للتشريع بالكاد يفهمون ما يدور في الأيام العادية، ولكن حين تقع أزمة داخل هذا العالم المركب من واقع وخيال يتضرر الجميع لأن هذا العالم يتحكم في قنوات أو أنابيب تتدفق عبرها العمليات الاقتصادية المترجمة إلى مال.
يربح الناس في هذا القطاع أكثر مما يربحون في الإنتاج والخدمات، مع أن الإنتاج والاستثمار والاقتراض لغرض الاستثمار هو أصل ربحهم، والباقي خيال.
ويتحول رأس المال المالي إلى قوة غير ديمقراطية في كافة المجتمعات ليس فقط لأنه يشكل قوة ضغط هائلة على الحكومات عبر حركة رؤوس الأموال، بل لأنه أبعد اللوبيات الرأسمالية عن عملية الإنتاج المادي وعن حياة المجتمعات، ولأن قوته وسيطرته لا تقفز عن القطاعات الاقتصادية الأخرى، فتأثيره عليها عبر الفوائد والإقراض لا تضاهيها قوة أي قطاع اقتصادي، ولأن السيطرة على الشركات التي تصدر إعلاما وتملك وسائل إعلام وتؤثر على أفكار الناس هي من مكونات قوته.
لا يعيش نظام رأسمالي متطور دون منظومة مالية بنكية. وتتلخص الخدمة التي يبيعها في بيع الزمن. يقرض البنك الإنسان الحقيقي أو الاعتباري زمنا ثمينا، أو للدقة يبيعه إمكانية استخدام المال لفترة من الوقت. إذ لا يوجد تزامن بين الاستثمار ومردوده، وبين شراء البضاعة وبيعها، وحتى بين العمل والراتب.
فالمستثمر يقترض جزءا من رأس المال المستثمر على الأقل حتى تثمر العملية فيسد جزءا من الاستثمار، والتاجر يشتري البضاعة ولكنه ينتظر بيعها.. وهكذا.
وفي جميع الحالات البنك يبيع مالا (ماله ومال الآخرين المودع عنده) ولكن الزيادة في قيمة المال التي تؤدي إلى الربح لا تنتج عن عملية تفريخ أو تفقيس أو انقسام خلايا مالية كالأميبا، بل مصدر زيادة المال هو زيادة القيمة في العمل: عملية الإنتاج والنقل وإيصال البضاعة وتسويقها.. وكل ما يضاف من قيم.
وتتركب من هذه العمليات البسيطة مع تعقد الحياة آلاف العمليات التي ينسى فيها الأصل، ويبنى عالم رأس مال مالي قائم بذاته، يقترض لكي يقترض، ويبيع الدين، ويبيع احتمالات مستقبيلة مشروطة بتحقق صفقة وهكذا..
لكي نفهم قليلا علينا أولا أن نعيد الأمر إلى العقل السليم والبسيط فهو أهم أداة في فهم العمليات الاقتصادية.
يعرف أي مواطن يملك رأس إنسان، وليس بالضرورة رأس مال، أنه يمكنه أن يعيش على الدين من البنك من انتهاء السيولة بين يديه وحتى وصول معاشه أو أجرته أو دخله.
يجسر الحساب المدين في البنك هذا العجز مرة واحدة وقد يحمله المواطن معه، يستنسخه، عدة سنوات ما دام يدفعه كل شهر فتتجدد الحاجة في نهاية كل شهر دون أن يتغير مبلغ العجز. ولكن لا يجوز أن يتراكم ويتضخم مبلغ الدين، أي أن يكون عجزا شهريا متتكررا وليس لمرة واحدة. ففي مثل هذه الحال مثلا حين لا يكفي الدخل كله لتغطية العجز، قد يتوقف البنك عن الإقراض ويحجز على ممتلكات المواطن أو يستخدم غيرها من الأدوات التي خطرت ببال المشرع بما فيها الغرامة والسجن.
ولنتخيل للحظة أن شعبا كاملا يعيش أعلى من مستوى إنتاجه خلال العام، إن كان ذلك في الاستهلاك أو المصاريف العسكرية أو "البَطَر" والثقافة الاستهلاكية عموما، وذلك في نظام ديمقراطي تتملق فيه الأحزاب الناخب ولا تقول له الحقيقة.
لا بد أن تتحول دولته إلى دولة مدينة لكي تمول الفرق بين ما ينتج هذا الشعب وما يستهلك. وينطبق على دينها وتراكمه ما ينطبق على المواطن، ولأنه لن يحاسبها شرطي دولي (خاصة إذا كانت هي الشرطي الدولي) فهي تستمر على الدرب هذا حتى وقوع الكارثة.
يبدو الأمر واضحا في أن أغنى دولة في العالم هي أيضا أكثر الدول دينا للدول الأخرى. فالشعب الأميركي يعيش بمستوى المعيشة الأوروبي ولكن بأسعار العالم الثالث في النفط والمأكل والملبس والسكن..
ولا يمكن أن يستمر هذا الأمر لفترة طويلة دون أزمات، لا بد أن يسد أحد هذا الفارق، وليس كله مؤلف من بيوت تم شراؤها ولم يتمكن الناس من سد ثمنها ويمكن الحجز عليها (نظريا فقط) مثلا، بل إن جزءا كبيرا من الفارق، أو العجز، استهلك وذهب مع مياه الصرف الصحي أو حلق إلى طبقة الأوزون مساهما في ثقبها.
والتضخم لا يحل هذه الأزمة إلا على المدى القصير، وكذلك بيع سندات الخزينة إلى دول أخرى، ولا حتى تخفيض سعر الدولار.. لا بد أن تتجلى الأزمة في النهاية على شكل تقليص المصاريف العامة ووضع قسم من عبء الدين على المواطنين على شكل سياسة ضرائبية معقولة كما في بعض الدول الأوروبية.
وما فعله بوش هو عكس ذلك إذ خفف الضرائب على رأس المال، وشجع البنوك على سياسة إقراض غير مسؤولة.
أزمة سيولة
ولنتخيل أيضا أن تتصرف البنوك في هذه الدولة بموجب هذه الثقافة الاقتصادية، إذا صح التعبير، فتسعى للإقراض بشكل غير مفحوص، ولتحقيق الأرباح من الفوائد العالية على القروض الطويلة المدى بتشجيع الناس على شراء البيوت وبنائها بمنح التسهيلات على تلقي قرض بنكي. أي أضف هنا الفوضى في سياسية الإقراض البنكية وجشع البنوك ورغبتها في تحقيق الأرباح باستخدام الودائع المتوفرة لديها.
(وما دام موضوع قروض الإسكان قد ذكر فإن هذه السياسة بدأت بتشجيع من الإدارة عام 1998 في مرحلة كلينتون وحوَّلها بوش إلى سياسة رسمية).
أشارت الإحصائيات عشية انهيار بنك ليمان براذرز واتضاح عمق وشمولية الأزمة البنكية أن البنوك الأميركية أقرضت 94 سنتا على كل دولار في حوزتها (يجب أن نضيف أنه في حوزتها نظريا)، وأن البنوك الأوروبية أقرضت 1.4 يورو على كل يورو، أي أن البنوك الأوروبية معرضة لأزمة عدم السداد أكثر من غيرها.
ولكن من أين تقرض البنوك؟ تسجل البنوك أرباحا خيالية كل عام، وهي على رأس القطاعات الاقتصادية الرابحة. ومن هنا ربما يصعق المواطن العادي من إفلاس أي بنك أو إغلاقه.
والبنوك حين تقرض المال فإنما تتصرف بأموال ليست ملكا لها، وهي تحصل على حصة الأسد من الفائدة الناجمة عن عملية الإقراض.
خذ مثلا بنك ليمان براذرز الذي سجل قرار عدم إنقاذه من قبل الخزينة الأميركية بداية الانهيار، لقد وجد هذا البنك مدينا بنحو 613 مليار دولار منها 160 مليارا لزبائن خارج الولايات المتحدة أودعوا أموالا فيه، أفرادا وصناديق، ومنها صناديق تقاعد أوروبية.
حين تبدأ أزمة السيولة نتيجة لعدم تمكن المدينين من سداد قروضهم أو حساباتهم البنكية المدنية، ويبدأ الناس بالمطالبة بودائعهم تحصل أزمة قد تؤدي إلى الإفلاس، فالبنك لا يجد ما يعيد به النقود.
وليس كل قرض يذهب إلى الاستثمار في الصناعة والتجارة ولشراء العقارات رغم ما فيها من مجازفة، فقسم من القروض يذهب للاستثمار في سوق المال ويتحول بذاته إلى الإقراض أحيانا، فيضاعف المجازفة وآثارها.
في حالة فقدان السيولة تقوم البنوك بالاقتراض من بنوك أخرى، وهذه الرغبة في الاقتراض من بنوك أخرى ترفع الفائدة البنكية، وبرفعها تقل قدرة الناس العاديين على سداد القروض.. وحين تتفاقم الأزمة تبيع البنوك أوراقا مالية للناس، ثم حين تقفز الأزمة درجة أعلى تفقد هذه الأوراق جاذبيتها وتبيع البنوك ديونها لمضاربين مكتفية بنسب أقل من الربح.
يجري هذا التراكم الذي يضخم الأزمة ولا يحلها طوال سنين دون أن يصل إلى الملاحق الاقتصادية ناهيك عن نشرات الأخبار.
ويسمع الناس بالأزمة عندما تستنفد هذه الوسائل ويصبح على الدولة أن تقرر أن تكفل الديون أو البنك برمته، أو تسدد ديونه. هنا يسمع الجمهور بالأزمة.
وبإمكان المرء أن يتخيل ماذا تعني أزمة بترليونات الدولارات.. وماذا يعني نقص السيولة وانسداد مجرى المال في عروق الاقتصاد.
فانهيار ليمان وتهديد زملائه بالانهيار أدى إلى عدم ثقة بالبنوك وسحب ودائع وتفاقم أزمة السيولة، ولا شك أن الأزمة مالية حقيقية ضربت وسوف تضرب في أوروبا واليابان وفي السوق المالي الرأسمالي العالمي برمته. وهنالك سوق عالمي من هذا النوع.
تتعقد الصورة أكثر بسبب وجود ما يسمى بالمشتقات التي تهدف إلى تقليل مجازفة طرف في تعاقد على شكل فيوتزر وأوبشنز وسوابس وغيرها، منها أيضا مشتقات خاصة بتقليل مجازفة الدين ديبت ديرافتفز القائمة على ممتلكات حقيقية أو وهمية.. دعك عزيزي القارئ من هذه التعابير فلن تحتاجها، ولكنها تزيد المجازفة لمجمل السوق المالي والمجتمع برمته لأنها تخلق قيما وهمية.
وظيفة البنك الاقتصادية هي المجازفة وإدارة المجازفة، وجعلها محتملة ما بين الإقراض وبيع الوقت لرأسمال المال الاقتصادي وبين تحقيق النتائج. وحين يخفق البنك في المهمة يدفع سوق المال وبالتالي الاقتصاد والمجتمع الثمن.
وطبعا سوف تتحول الأزمة المالية إلى أزمة اقتصادية. ويبقى السؤال حول حجمها.
وهذا هو الفرق بين مواطن يعلن إفلاسه ولا يسدد دينه ودولة تعاقبه بالسجن، إذا لم تجد ما تحجز عليه، وبين نظام بنكي مالي يعني إفلاسه فقدان السيولة من أنابيب الاقتصاد وعرقلة العملية الاقتصادية برمتها، من البيع والشراء وحتى دفع الرواتب.
هنا لا تستطيع الدول الوقوف مكتوفة وولوج مناقشة نظرية منقطعة عن الدنيا كما يجري في بعض الصحف العربية، من نوع: هل يعني تدخل الدولة أم لا يعني انهيار نظام السوق، أو هل هو خطة اشتراكية؟ وهذا هو نوع النقاش الدائر على الخطوات التي اتخذتها الإدارة الأميركية بضخ 640 مليار دولار إلى عروق النظام البنكي، وحول خطابات ساركوزي اليميني المحافظ الجديد والتي تبدو فجأة يسارية لأنها تدعو إلى تدخل الدولة.
هذه خطوات تتخذها الحكومات للحفاظ على النظام الاقتصادي السائد، وهو نظام رأسمالي. وهي تتخذ لحمايته من سوقه المالي الذي أدى الدور الذي كان يؤديه سوق البضائع في الأزمات الدورية في القرن التاسع عشر نتيجة لعدم التوافق الدوري بين العرض والطلب.. ودورات التضخم، والنمو والكساد والبطالة.
لا علاقة لهذه الخطوات المصممة لإنقاذ النظام الرأسمالي البنكي التي سوف يتبعها بعد سنوات تطويره بمجموعة قيود وتشريعات وأنظمة، مستفيدة من الأزمة الحالية، بالنقاش حول الرأسمالية والاشتراكية، فهذا نقاش دائر ضمن الرأسمالية.
ومثلا نحن نشهد الآن عملية توحيد لبنوك بحيث تسيطر خمس مؤسسات مالية على الودائع في الولايات المتحدة بعد أن قاومت بنوك بشراء الديون المضمونة من أخرى أو توحدت معها في الأشهر الأخيرة.
حول المقارنات
طبعا لا بأس بسجن مدير بنك، كما يسجن مواطن مدين، ولكن على الدولة أن تتخذ إجراءات أخرى لأن ممتلكات البنوك وعملها، خلافا لمصالح المواطن، متعلقة بمصالح الناس كافة وليس فقط بإثراء الفرد ذاته وإهماله الإجرامي.
لو بقيت الأزمة محصورة في طبقة البنوك ومديريها وأصحابها وفئة المضاربين الكبار في البورصات لما اهتم أحد بمصيرهم، ولكن الأزمة المالية تتحول إلى أزمة اقتصادية، لأن الانسداد المالي الحاصل نفسه يؤدي إلى عرقلة العمليات الاقتصادية الجارية، وإلى تأجيل مشاريع وإلغاء أخرى لانعدام الثقة، أو لانعدام السيولة، ولكن أيضا كنتيجة لخطوات علاج الأزمة ذاتها على المدى القصير.
فالدولة تمول العلاج بإنقاذ البنوك من دافع الضرائب ما يعني زيادة الجباية من الناس، وهذا بدوره يضيف إلى إبطاء الحركة الاقتصادية في الأسواق المتعثرة في الطريق إلى الكساد، وبعد الكساد البطالة. ويتوقع أن ترتفع في أميركا العام القادم لتصل إلى 10% من قوة العمل. وهنالك أخبار متتابعة عن تقليص شركات صناعية كبرى خطوط إنتاجها.
ولكن العلاج ممكن. وهذه ليست أول أزمة في الاقتصاد الرأسمالي. المهم أن بنية هذا الاقتصاد تتغير بعد كل أزمة، وأداة التغيير هي النضال الاجتماعي والنقابي والبرلمانات والتشريعات ومجموعات الضغط وخوف أصحاب رؤوس الأموال من تكرار التجربة أو عواقبها، واضطرار رأس المال إلى أن يتكيف.
لقد نشأت الأزمة المدمرة تلك عام 1929 بعد انهيار بنك كريديت أنشتالت النمساوي وتفاعل الانهيار مع أزمة البورصة في نيويورك.
هناك كانت عملية الاقتراض تكفي كي يضع المرء المال في شركات في البورصة، ثم يترك القدرة التي يمنحها رأس المال على المضاربة تفعل فعلها في ربح متصاعد. وهو ما سمى "ليفرج" في البورصة، إنه يضاعف الأرباح حين يحقق أرباحا، ولأنها وهمية فهو يضاعف الخسائر حين يخسر.
إذ يمكِّن هذا النظام من يملك مبلغا معينا أن يشتري أسهما في شركات بأضعاف هذا المبلغ نتيجة لتمويل من مختلف الاتجاهات، أو نتيجة للتيقن من قدرته على السداد من الأرباح ذاتها.
يحقق هذا الطريق أرباحا خيالية، وهي خيالية بمعنى حجمها المبالغ فيه إذا قبض صاحبها المبلغ و"نفذ بجلده" في الوقت المناسب كما في كازينو قبل أن يبدأ بالخسارة، وهي خيالية أيضا بمعنى غير واقعية.
وطبعا تحول المضاربون، شخوص هذه العملية، إلى أبطال ثقافة وحضارة منذ عهد تاتشر، وبعضهم يصمم تقليعات نمط حياة للشباب وأرباح سهلة وتخصصات مهنية لجيل بأكمله. ثم حين تحل الخسائر تكون أيضا خيالية، لأنه لا يخسر فقط ما ربح على رأسماله بل يخسر رأس المال نفسه ويبقى مدينا.
ومن يقارن الأزمة الحالية بأزمة عام 1929 لا يخطئ فقط في فهم تلك بنيويا ولكنه يخطئ إذا اعتقد أنه بذلك يضخم الموضوع أو أنه يقصد بذلك نهاية الرأسمالية. فقد خرج النظام الرأسمالي بعدها أقوى مما كان. ولكن الثمن كان أزمات اجتماعية واقتصادية عنيفة وملايين الضحايا.
لقد وصلت البطالة في بعض الدول إلى ثلث الأيدي العاملة، كما تقلص حجم الاقتصاد الأميركي بالربع خلال تلك السنوات، وأدى الكساد إلى تسجيل إفقار واسع على حافة الجوع في بلدان متطورة.
لقد اضطر رأس المال إلى أن يتغير بنيويا بعدها. وقد تجسد التغيير في "نيو ديل" وسياسات روزفلت، والإنجازات النقابية في أميركا، وفي المعالجات الاقتصادية النازية للأزمة، التي انتشلت الاقتصاد عبر مشاريع الدولة، خاصة في البنى التحتية والمواصلات وبناء الجيش، وبواسطة التحالف بين الدولة ورأس المال الصناعي الاحتكاري.. وأيضا بثمن قيام الدولة الشمولية وبواسطة الحرب التي دمرت كل شيء من جديد.
والحقيقة أن جذور عودة العالمية إلى الأزمة الحالية تعود إلى تخلي الولايات المتحدة عام 1971 عن التغيرات التي استنتجتها المنظومة العالمية من أزمة 1929-1934 التي هزت النظام الرأسمالي كله، والتي تجلت في منظومة بريتون وودز الاقتصادية التي اتفق عليها بين بريطانيا والولايات المتحدة ثم أقرها 730 موفدا من 44 دولة في مؤتمر في هامشير بعد الحرب الثانية.
وربما يكون من الرمزي أن نتذكر اليوم أن المفاوض البريطاني على الاتفاقية كان الاقتصادي الشهير كينز الداعي لتدخل الدولة الواسع في الاقتصاد، والذي استفاد من نظرياته الاقتصاد الألماني للخروج من الأزمة قبل الحرب.
لقد استنتجت هذه الدول من أزمة الثلاثينيات بعد عمل سياسي ونقابي ديمقراطي واسع وبعد تحول راديكالي ديمقراطي يساري في الرأي العام، وبعد حروب دامية ومدمرة أن عليها أن تنظم سوق المال وعملياته وتقيده، وأن تنسق أسعار العملات بشكل ثابت نسبة إلى الذهب، كما أقرت مجموعة من القيود على رأس المال البنكي.
ولكن الولايات المتحدة حررت الدولار من ربطه بالذهب عام 1971 وحولته إلى مرجع لقياس العملات الأخرى بدل الذهب.
نحن نعرف الآن أن الأزمة الحالية عميقة، ولكنها ليست مقدمة لتغير نحو نظام اقتصادي آخر غير مطروح. فالتنافس الانتخابي في الولايات المتحدة يدور ضمن نفس حزب رأس المال بجناحيه الجمهوري والديمقراطي، ونعرف أن لدى النظام أدوات أنجع بكثير في معالجة الأزمة مما كان قائما في بداية الثلاثينيات.
ولكننا نعرف أيضا أن المنظومة الرأسمالية التي صمتت طويلا على ما يجري في أميركا من ناحية حرية رأس المال المالي ومناوراته ومضارباته، وعلى المديونية الأميركية على حساب الدول الأخرى لن تصمت أكثر.
كما نعرف أن تحولا سوف يجري في الرأي العام باتجاه دعم تدخل الدولة في تنظيم اقتصاد السوق وفي تقديم الضمانات للمواطن.
ونعرف أيضا أن الجمهور الأميركي يميل إلى انتخاب من سوف يجمل صورة أميركا عالميا في هذه الظروف، ونعرف أن الدول الأقل تضررا هي تلك الأبعد عن مركز الزلزال، وإذا كانت لديها سيولة وقوة اقتصادية وسياسية تدعم هذه السيولة فسوف تستغل الفرص كي تشتري في الغرب.
ونعرف كما في حالة نهوض روسيا العسكري السياسي في جورجيا أن قوة الدولة الوطنية سوف تزداد تجاه الداخل والخارج في الاقتصاد، لتصب كلها ضد فكرة الإمبراطورية..
هذه كلها مقدمات تسهل التغيير، ولكن التغيير نفسه يأتي بوسائل ومظاهر لا تخطر ببالنا.