من القادة السياسيين لينيـــن
لا يوجد خلاف بين الباحثين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين على أن الاشتراكية هي من أهم خصوصيات القرن العشرين، ففيه بدأت ، وفيه عاشت على مدى سبعين سنة، وفيه انتـــــهت أيضا الى غير رجعة بحسب البعض، أو لكي تستعيد أنفاسها وتعود أقوى وأنضج بحسب البعض الآخر
بدأت في سهول روسيا الجليدية، وامتدت إلى سائر المقاطعات المجاورة، ثم إلى الدول القريبة، وأحيانا البعيدة. ومن المفارقات أنها عندما انهارت، وفي روسيا حيث بدأت بالتحديد، ثم في أوروبا الشرقية، حافظت عليها البلدان البعيدة نسبيا (كالصين) وفعلي ككوبا وفيتنام وكوريا الشمالية
أثرت الاشتراكية في الدول التي اعتمدتها إلى حد بعيد، وكانت التغيرات الناجمة عنها جذرية في غالب الأحيان، وشملت السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والعلوم والفنون وحتى الرياضة
والاتحاد السوفياتي (السابق) أوضح دليل على ذلك. ففي بداية القرن كانت روسيا والمقاطعات التابعة لها تحت حكم القياصرة تعاني الفقر والجوع والبطالة واستفحال الأمراض. كانت الأراضي الشاسعة ملكية للقيصر وأسرته الحاكمة، وكان الشعب يطالب بالسماح له بزراعة الأرض والعناية بها لقاء قسم بسيط من المحصول وتوفيرا للقمة العيش، ولكن من دون جدوى
ولكن خلال اقل من أربعين عاما من الحكم الاشتراكي انقلبت الأمور رأسا على عقب. ( للمقارنة فقط: إن الحرب اللبنانية باتت في سنتها الخامسة والعشرين اليوم
أكبر مكتبة في العالم هي مكتبة لينين في موسكو. أعظم فرقة لرقص الباليه هي فرقة البولشوي الروسية. أول إنسان طار إلى الفضاء بمركبة كان يوري غاغارين السوفياتي، وأول انسان حلق خارج مركبته الفضائية كان سوفياتيا أيضا
امتلكوا القنابل الذرية والهيدروجينية، ولكنهم ـ على دكتاتوريتهم ـ لم يسمحوا لأنفسهم باستخدامها، بل تركوا "شرف" ذلك للأميركان الديمقراطيين الأحرار
نافسوا كل دول العالم في مجالات الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والتكنولوجيا، وحققوا دائما النتائج الباهرة في مجالات الرياضة، ولا منافس لهم في لعبة الشطرنج الذي تعتمد على الذكاء (وحده) سوى بعض الأميركيين أو الأوروبيين الذين من أصل "سوفياتي
هذا التحول الكبير هو من دون شك خلاصة جهود وأتعاب ملايين المواطنين السوفيات خلال سنوات عديدة، ولكن الذي جعل كل ذلك ممكنا هو لينين
ولد فلاديمير ايليتش أوليانوف في 22 نيسان(أبريل) 1870 في مدينة صغيرة على ضفاف الفولغا تدعى سيمبيرسك، أما لقبه "لينين" فمأخوذ من اسم نهر سيبيري يدعى لينا
كان والده معلما، ثم صار مديرا لمجموعة المدارس في المدينة. أما والدته فكانت ابنة طبيب مثقفة ثقافة عالية ومندفعة في العناية بأولادها الخمسة ( صبيّان اثنان وثلاثة بنات. وقد صاروا كلهم ثوريين باستثناء بنت واحدة توفيت وهي في العشرين من عمرها
تلقى لينين دروسه الأولى وهو في الخامسة على يد معلم كان يحضر إلى منزله لهذه الغاية. ثم دخل المدرسة وهو في التاسعة، مبديا اجتهادا كبيرا وذكاء لقيا إعجاب الجميع. وفي ذلك الوقت كانت روسيا قد بدأت تتحول بسرعة إلى دولة صناعية، وكانت قطاعات واسعة من الشعب تأن تحت وطأة الجوع والفاقة، لانعدام شروط العمل الإنسانية، وتكافل أصحاب المصانع مع الأسرة الحاكمة
توفي والده وهو في السادسة عشرة، وفي السنة التالية أعدم أخوه ألكسندر شنقا بتهمة الاشتراك في مؤامرة لاغتيال القيصر. وقد تركت هذه الحادثة أبلغ الأثر في نفسه، وخصوصا كلمات أخيه أثناء المحاكمة، إذ اعترف بما نسب إليه قائلا انه أراد قتل القيصر لأنها الوسيلة الوحيدة لتحقيق الحرية السياسية للشعب الروسي في السنة نفسها أنهى لينين دروسه الثانوية بامتياز، وحصل على الميدالية الذهبية. وفي الخريف انتسب إلى جامعة قازان ولكنه طرد منها بسبب تزعمه لفئة احتجت على انعدام الحرية في الجامعة. وقد حاول عدة مرات تقديم طلبات للعودة إلى متابعة دروسه، ولكنها رفضت كلها
أخيرا قبلت جامعة بترسبورغ طلبه للانتساب إليها شرط عدم حضور الدروس، والاكتفاء بالمجيء إلى الحرم الجامعي في نهاية السنة الدراسية للاشتراك في الامتحانات
حصل لينين على شهادة الحقوق (1891) ثم بدأ العمل في مكتب للمحاماة في سامارا. وفي تلك الفترة راح يقرا كتابات كارل ماركس بعمق
حتى العام 1893 حين انضم إلى منظمة ماركسية تدعى "الديمقراطية الاجتماعية". وما لبث أن عاد إلى بترسبورغ حيث تولى قيادة تلك المنظمة، وساعده في صعوده ذكاؤه اللامع وثقافته الغزيرة وقدرته على الخطابة والإقناع
توفي القيصر الكسندر الثالث (1894) فخلفه ابنه نيقولا الثاني. أما لينين فقد أمضى معظم العام 1895 في فرنسا وألمانيا وسويسرا حيث التقى معظم الماركسيين النشطين هناك. وبعد شهرين من عودته إلى بترسبورغ ألقي القبض عليه فيما هو يستعد لإصدار جريدة "قضية العمال". وبقي رهن التحقيق أكثر من عام إلى أن صدر بحقه الحكم بالنفي إلى سيبيريا1897
لم يكن النفي إلى سيبيريا سجنا بكل معنى الكلمة. فقد كانت الحكومة تدفع للمنفيين علاوة شهرية بسيطة، وكانوا يختارون مكان إقامتهم ضمن حدود معينة. وقد اختار لينين بلدة شوشانسكايا في آباكان، وأمضى فترة النفي في الكتابة بعد زواجه من ناديا كروبسكايا (1898) التي كانت هي الأخرى منفية بسبب نشاطاتها السياسية. وأهم ما كتبه هناك " تطور الرأسمالية في روسيا
في تلك الأثناء اتحدت معظم الحركات الماركسية السرية في روسيا وشكلت حزب "العمل الديمقراطي الروسي"، ومنها الحركة التي انتمى إليها لينين
بعد انتهاء مدة نفيه في مطلع 1900 غادر لينين إلى ألمانيا للمساعدة في إصدار جريدة الحزب "الشرارة" ثم جريدة "الفجر"، وكانتا ممنوعتان وتوزع اعدادهما بعد تهريبها إلى روسيا. وهناك بدأ فلاديمير ايليانوف يستعمل اسم لينين، كما فعل سواه من الكتاب الذين اتخذوا اسماء مستعارة لتضليل بوليس القيصر السري
خلال ذلك انقسم الحزب الى جماعتين: البلشفيين (ومعناها بالروسية الأكثرية) والمانشيفيين (الأقلية) بسبب التنظيمات الداخلية للحزب، وأهمها رغبة البولشفيين في اقتصار الانتماء إلى الحزب على المناضلين الثوريين، ورغبة الأقلية في أن يكون باب الانضمام مفتوحا أمام الجميع
الثورة الأولى
مع بدابة العام 1900 بدأت تتكون في روسيا نقمة عارمة ضد القيصر بسبب تردي الوضاع على كافة الأصعدة. وارتفعت المطالبات بمزيد من الحريات السياسية، السماح للفلاحين بزراعة الأراضي التي يمتلكها الإقطاعيون، زيادة أجور العمال وتحسين ظروف العمل، إنهاء الحرب ضد اليابان
يوم الأحد ( 22 كانون الثاني – يناير 1905) نظم كاهن أرثوذكسي يدعى جورج غابون مظاهرة اشترك فيها أكثر من 200,000 مواطن في بترسبورغ. وكانت مظاهرة سلمية تهدف الى ايصال المطالب الشعبية الى القيصر. ولكن رجاله أطلقوا النار على المتظاهرين وقتلوا عدة مئات منهم. وكانت تلك هي الشرارة التي أشعلت الثورة الروسية وامتدت، على درجات متفاوتة من الحدة، حتى سقوط النظام القيصري في 1917
عاد لينين الى روسيا وشارك في ما تلا تلك المظاهرة من إضرابات شلت الحركة في موسكو ومعظم المدن الروسية، ومن انتفاضات ثورية مسلحة ضد القيصر . ولكن رجاله استطاعوا السيطرة على الوضع في نهاية العام 1905، إلا أن الشرارة كانت قد اشتعلت، ولو أنها بقيت أحيانا تحت الرماد
غادر لينين إلى أوروبا مجددا متنقلا بين معظم دولها، مشاركا في نشاطات الأحزاب الماركسية، وعاملا على عقد اجتماعات دورية للبلاشفة رغبة منه في إبقاء الجذوة الثورية الى أن تحين فرصة مؤاتية لإسقاط القيصر. ولم يكن لينين بعيدا عن نشاطات الحزب الداخلية رغم وجوده في الخارج. وحين أصدر الحزب صحيفة البرافدا ( الحقيقة) كانت مقالات لينين تشكل القسم الأكبر منها
في الأول من آب (أغسطس) 1914 أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا. وبحلول العام 1917 كان الشعب الروسي يئن تحت وطأة الفاقة والعوز، وبدا أن المجاعة على الأبواب. وظهر نقص في المواد الغذائية على اختلافها حتى الخبز. والحكومة عاجزة عن عمل أي شيء
العمال يضربون عن العمل وصفوف النسوة تطول أمام الأفران يوما بعد يوم. وبدأت المظاهرات العارمة، ورفض الجنود هذه المرة تنفيذ أوامر قياداتهم بإطلاق النار، ما اضطر القيصر الى التنازل عن العرش وتسليم السلطة الى حكومة برئاسة الأمير جورج ليفوف 15 آذار ـ مارس 1917
عاد لينين الى روسيا، وكذلك معظم قيادات الحزب البولشيفي الذين كانوا منفيين الى سيبيريا. وفي 16 نيسان – ابريل 1917 وصلوا الى بتروغراد واستقبلوا استقبال الأبطال
طالب لينين بإنهاء الحرب ضد ألمانيا فورا، وبأن تعود ملكية الأراضي الى الدولة وبإسقاط حكومة ليفوف. واستطاع استعادة زمام قيادة الحزب البولشفي إلا انه لم يتمكن من الوصول الى السلطة
في تموز شكلت حكومة جديدة برئاسة الكسندر كيرينسكي، واصدرت أمرا بإلقاء القبض على لينين بتهمة العمالة للألمان. فغادر الى فنلندا حيث كتب واحدا من اهم اعماله "الدولة والثورة"، وفيه شرح كيفية تنظيم الثورة ونوع الحكومة التي يجب أن تتولى السلطة بعد إسقاط الحكم القائم. ثم أرسل كتابا الى الهيئة المركزية للحزب البولشيفي معلنا أن زمن الخطابات قد ولّّى وحان وقت العمل الثوري، قائلا : "إن التاريخ لن يغفر لنا إذا لم نستعد السلطة الآن
والثانية
عاد لينين الى بتروغراد في تشرين الأول ـ أكتوبر 1917 ودعا الهيئة المركزية للحزب الى أعلان الثورة حالا
كانت حكومة كيرينسكي ضعيفة، وكان ليو تروتسكي، أحد القادة البارزين في الحزب، يحظى بولاء مجموعات كبيرة من الجنود. وأعلن بعض فرق البحرية تأييد الثورة. وهكذا قرر البلاشفة التحرك
سقطت بتروغراد بأيديهم دون مقاومة تذكر ( 7 تشرين الثاني ـ نوفمبر، الموافق 25 تشرين الأول أكتوبر حسب التقويم الشرقي) . في موسكو كانت المقاومة أشد، إلا أن البلاشفة سيطروا على المدينة في اقل من أسبوع. وهكذا صارت كل الروسيا تحت سلطتهم. واستطاعوا اكتساب ثقة الأهالي بالشعار البسيط الذي رفعوه: الخبز والسلام والأرض للجميع
اجتمع مجلس السوفيات (فروع الحزب) الأعلى في 8 تشرين الثاني 1917، وضم ممثلين عن كافة الأقاليم الروسية. وانتخبوا "مجلس مفوضي الشعب" الذي انتخب لينين رئيسا له. وهكذا صار فعليا رئيس الدولة الروسية. وفي الاجتماع الأول سأل لينين المجلس أن يعطيه تفويضا بإعلان إنهاء الحرب ضد ألمانيا، وبإلغاء الملكية الفردية. فوافق المجلس على الشأنين. وهكذا بدأت مفاوضات السلام مع ألمانيا وبدأ العمل على إلغاء الملكية الخاصة للأراضي وإلحاقها بممتلكات الدولة. ليتم فيما بعد توزيعها على الفلاحين
لم تكن السنوات الأولى لحكم لينين سنوات سهلة. فالجيش كان مشتتا بسبب الحرب، والقوات الألمانية تتقدم على الجبهات، فيما أعداء البلاشفة يتكتلون للإطاحة بهم
بذل لينين جهودا جبارة لإنهاء الحرب مع ألمانيا، مقدما بعض التنازلات في المقاطعات التي كانت تحت حكم القياصرة كفنلندا و بولندا. وهكذا وقعت معاهدة السلام في بريستيلوفسك 3 آذار ـ مارس 1918
وفي العام نفسه طلب لينين تغيير اسم الحزب من حزب "العمل الديمقراطي الاجتماعي الروسي" إلى الحزب "الاشتراكي (الشيوعي) الروسي
في شهر آب ـ اغسطس تعرض لينين لمحاولة اغتيال، فأصيب برصاصتين ولكنه نجا من الموت, إلا أن واحدة منهما بقيت في عنقه
بدأ المعارضون للحكم الاشتراكي بالقيام بأعمال العنف في المدن، وتحولت تلك الأعمال الى ما يشبه الحرب الأهلية في الأرياف. ولكن المعارضين كانت تنقصهم وحدة الهدف والرؤية، فاستطاعت الحكومة القضاء على تمردهم بحلول العام 1920، حيث كانت تنتظر الحكومة معركة هامة على الصعيد الخارجي
كانت حكومات انكلترا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة قد رفضت التعامل مع النظام الجديد لأنه رفض التعهد بدفع ديون القيصر لتلك الحكومات. و ألغى معظمها التمثيل الديبلوماسي والعقود التجارية والصناعية
في العام 1921 أصدر لينين برنامجا سماه "السياسة الاقتصادية الجديدة"، معطيا الحرية للمزارعين وصغار المنتجين للتصرف بمنتجاتهم، سامحا بالتجارة الحرة، وداعيا الأجانب الى الاستثمار في روسيا
دفع هذا البرنامج حكومات أوروبا الغربية و الولايات المتحدة الى إعادة التمثيل الديبلوماسي والعلاقات التجارية. ما مكن الدولة الجديدة من الانطلاق في بناء نفسها حتى وصلت الى ما وصلت اليه من تقدم علمي وفني وتربوي ، وتمكنت من تكوين قوة عسكرية كانت الى حد بعيد رادعا لجموح الولايات المتحدة ورغبة المسيطرين على سياستها من أرباب "النظام العالمي الجديد" من السيطرة على اقتصاد العالم . وهو ما يفعلونه الآن، بكل وقاحة، ومن دون رادع مادي أو أخلاقي
كان للرصاصة التي أصابت عنق لينين أكبر الأثر في انهيار صحته. وقد أزالها الأطباء من عنقه (1922)، ولكنهم لم يستطيعوا إلغاء آثارها القاتلة، اذ تسببت في تعرض لينين لعدة نوبات دماغية، كانت آخرها (21 كانون الثاني 1924) القاضية
حُنط جسد لينين ودفن في الساحة الحمراء في موسكو. ويعتبر قبره محجة لكل المؤمنين بفكره ونضاله