منذ مطلع عقد التسعينات، يشهد
العالم سلسلة من الأحداث والتطورات على مستوى كبير من الأهمية بدأت
بنجاح الولايات المتحدة في حشد قوات أكثر من ثلاثين بلداً من أجل إخراج
العراق من الكويت، ثم تولت بعد ذلك تدمير قوة العراق والقضاء على اقتصاده
وبنيته التحتية وفرض حصار لا يزال مستمراً حتى الآن. ثم تلى ذلك، ورافقه،
على نحو دراماتيكي متسارع انهيار الاتحاد السوفياتي، وتهديم جدار برلين
وتفكيك يوغسلافيا. ثم انعقاد مؤتمر مدريد وما تلاه من محادثات ومفاوضات
بين البلدان العربية المعنية وإسرائيل. حيث تم توقيع اتفاق أوسلو مع
الفلسطينيين واتفاق وادي عربة مع الأردن. مع تعطل المحادثات على المسارين
السوري واللبناني.
وعلى الصعيد العالمي، كان لانتهاء
الحرب الباردة، نتائج هامة، حيث بدأت الدول الكبرى تتحرك لإعادة
صياغة نسق العلاقات الدولية. و في منطقتنا العربية قادت الولايات المتحدة
الأمريكية مشروع بيريز الذي دعاه الشرق الأوسط الجديد،
في حين طرح الاتحاد الأوربي مشروع الشراكة الأوربية تجاه دول الجوار
المطلة على شرق وجنوب المتوسط.
وكانت بداية التحرك الأوربي
البيان الذي أصدرته قمة المجلس الأوربي التي عقدت في لشبونة عام 1992،
وقد تضمن هذا البيان التأكيد على أن الضفتين الجنوبية والشرقية للبحر
المتوسط، تشكل مناطق جغرافية يرتبط بها الاتحاد الأوربي بمصالح قوية
تتمثل في الحفاظ على الأمن والاستقرار في تلك المناطق. ثم دعا المجلس
الوزاري الأوربي في اجتماعه الذي عقد في اليونان عام 1994، اللجنة
الأوربية لوضع ورقة عمل حول المبادئ الأساسية لسياسة أوربية – متوسطية.
وأُقرت هذه الورقة في القمة الأوربية التي عقدت في ألمانيا في نفس
العام.
وفي تشرين الثاني نوفمبر 1995،
انعقد في برشلونة المؤتمر الوزاري للشراكة الأوربية المتوسطية ، الذي أصدر «إعلان برشلونة» الشهير،
الذي تضمن جوانب الشراكة في أقسامها الثلاثة: السياسية والاقتصادية
والاجتماعية.
وقبل المضي في هذا البحث، أجد من الضروري أن أشير إلى بعض النقاط:
أولاً: لا يوجد بين يدي أي باحث معلومات وبيانات، عما يدور من مفاوضات بين
الجانبين السورية والأوربي، سوى ما ينشر في الجرائد وأجهزة الإعلام
الرسمية. ففي حين أن هذه المفاوضات تمس حاضر ومستقبل البلاد، فإنها
لا تزال تجري خلف الأبواب المغلقة، وتفتقد إلى الكثير من الشفافية
المطلوبة في مثل هذه الحالات.
ثانياً: ليس الغرض من طرح هذا الموضوع، معارضته، فنحن لسنا من دعاة الانغلاق
على الذات. صحيح أننا نطالب بالتمسك بالقرار الاقتصادي المستقل تمشياً
وانسجاماً مع تمسكنا بقرارنا السياسي المستقل. ولكن هذا لا يعني الانغلاق،
وإنما يعني إقامة علاقات موضوعية مع مختلف الدول، وفق قواعد القانون
الدولي، وبما يكفل تحقيق مصالحنا الوطنية.
ثالثاً: إن الحرص على هذا الأمر، أي إقامة علاقات موضوعية مع جميع دول العالم
وفق مبادئ القانون الدولي، ومن منطلق التمسك بالسيادة هو الذي يدفعنا
إلى التفتيش عن الشروط الموضوعية التي يمكن أن تقيم هذه العلاقات على
أسس راسخة، دون أن يعتريها أية شائبة يمكن أن تعترض سبيلها مستقبلاً.
وتؤدي إلى فشلها.
رابعاً: إن ما سوف أطرحه من آراء، يعبر فقط عن قناعاتي الشخصية، وأرجو أن
يعتبر ذلك مع ما سيطرح من آراء أخرى من خلال التعقيب أو النقاش في
هذه القاعة على أنه إسهاماً في دفع المفاوضات إلى مسارها الصحيح. وليس
العكس.
خامساً: قبل إعلان برشلونة، كانت الجماعة الأوربية تقيم علاقاتها مع دول
جنوب وشرق المتوسط، وفقاً لاتفاقات تجارية ثنائية، أو اتفاقات المشاركة
الجماعية منذ أواخر الستينات مع كل من تونس والمغرب على سبيل المثال،
ثم جرى عقد اتفاقات مشاركة عام 1976 مع الدول المغربية الثلاث، ثم
تلى ذلك عام 1977 عقد اتفاقيات مع أربع دول شرقية هي الأردن وسورية
ولبنان ومصر. وهذه الاتفاقيات بنيت على أسس تقبل التفاوت في المستويات
كحقيقة قائمة، تجيز عدم المطالبة بالمعاملة بالمثل. ومن ثم حصلت هذه
الدول على تسهيلات لصادراتها في الأسواق الأوربية، ولم تمنح ما يماثلها
لوارداتها. ولكن ما يحدث الآن في إطار مفاوضات الشراكة، إنما هو إلغاء
للتفاوت في المستويات، وكأن الظروف متساوية بين اقتصادات الدول الداخلة
في المفاوضات. القوية منها والضعيفة.
بعد هذه الملاحظات، نعود إلى بيان برشلونة 1995، ونستعرض أهم الجوانب التي
تضمنها هذا البيان:
1 ـ في الجانب السياسي
والأمن: فإن الدول المشاركة (27 دولة) تتطلع إلى تكثيف الحوار
السياسي على أساس مجموعة من القيم والمبادئ: كاحترام السيادة الوطنية
وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام حقوق الإنسان، ودولة القانون،
والديمقراطية وعدم اللجوء إلى القوة وحل المنازعات حلاً سلمياً والسيطرة
على التسلح وعلى انتشار الأسلحة ولاسيما أسلحة الدمار الشامل والعمل
على جعل المنطقة خالية من هذه الأسلحة ومحاربة المخدرات والإرهاب والجريمة
المنظمة.
1 ـ وفي الجانب الاقتصادي
والمالي: ينبغي أن تحقق الشراكة هدف " التنمية الاقتصادية
والاجتماعية الدائمة" ضمن أفق بناء منطقة رخاء وازدهار بأمل خلق
منطقة تبادل حر واسعة أوربية – متوسطية في غضون أفق عام 2010.
وتضمن
الجانب الاقتصادي:
ـ دعم الاقتصاد الحر وتطويره
ووضع الإطار القانوني والتنظيمي الملائم لاقتصاد السوق.
ـ تصويب البنيات الاقتصادية والاجتماعية
وتنظيمها وتحديثها، مع إعطاء الأولوية لتعزيز القطاع الخاص وتطويره،
وسيحاول الشركاء تخفيف الآثار الاجتماعية السلبية، والتي قد تنجم عن
هذا التصويب والتنظيم، من خلال البرنامج" لمساعدة السكان الأكثر
فقراً"
ـ تعزيز الأولويات الهادفة إلى
تنمية عمليات نقل التكنولوجيا.
ـ دعم التنمية الاقتصادية من
خلال الادخار المحلي والاستثمار الخارجي المباشر. مع التأكيد على أهمية
إتاحة الأجواء التي تساعد على الاستثمار وإزالة الحواجز التي تعيقه
وتؤدي إلى نقل التكنولوجيا وزيادة الإنتاج والتصدير.
وتضمن
البيان إشارات أخرى في هذا الجانب أهمها:
التوفيق بين التنمية الاقتصادية
وحماية البيئة.
دور النساء الرئيسي في التنمية.
أهمية الحفاظ على الثروة السمكية.
الدور الحيوي لقطاع الطاقة في
الشراكة الاقتصادية والأوربية – المتوسطية.
المياه ومسألة تنظيم إدارتها
وتنمية الموارد المائية.
التعاون من أجل تحديث الزراعة.
أهمية تطوير البنى التحتية وتحسينها.
احترام مبادئ القانون البحري
الدولي.
وفي مجال التعاون المالي، اعترف
المشاركون في برشلونة إن إقامة منطقة للتبادل الحر – ونجاح الشراكة
الأوربية – المتوسطية، إنما يتطلبان زيادة ضخمة في المعونة المالية
التي يجب أن تشجع قبل كل شيء النمو الداخلي الثابت، وتعبئة الفعاليات
الاقتصادية والمحلية. ولاحظ المشاركون أن المجلس الأوربي قد وافق على
منح مساعدة مالية مقدارها 4685 مليون ايكو للفترة بين العام 1995 والعام
1999، على شكل اعتمادات متوفرة في ميزانية المجموعة الأوربية وسيضيف
البنك الأوربي للاستثمار مساهمته على شكل قروض ذات مبلغ متزايد، مثلما
ساهمت الدول الأعضاء من خلال اعتمادات مالية ثنائية.
1 ـ وفي المجالات الاجتماعية
والثقافية والإنسانية: يعترف المشاركون بأن العامل الأساسي والمهم
في التقارب والتفاهم بين شعوب المتوسط، إنما هي العادات والتقاليد
الثقافية والحضارية، وإن الحوار بين الثقافات والتبادل على المستوى
الإنساني والعلمي والتكنولوجي يعزز التفاهم بين الشعوب ويحسن معرفتهم
المتبادلة بعضهم ببعض:
وتتضمن هذه المجالات:
ـ تأكيد دور وسائل الإعلام.
ـ أهمية قطاع الصحة في التنمية
وضرورة احترام الحقوق الاجتماعية الأساسية.
ـ التعاون لتخفيف ضغط الهجرة.
بما في ذلك وضع برامج محلية للتدريب المهني وإيجاد فرص عمل محلية،
وضرورة تحقيق تعاون أوثق فيما يتعلق بالهجرة غير الشرعية.
ونعتقد
أن وضع المفاوضات مع الجانب الأوربي في المسار الصحيح، وإقامة العلاقات
على أسس موضوعية، يفترض طرح ومناقشة الموضوعات التالية:
أولاً: العلاقات التاريخية
الأوربية – العربية:
1-
ترتبط أوربا بالمنطقة العربية إجمالاً،
وبالبلدان العربية المتوسطة خصوصاً بعلاقات تاريخية قديمة، وقد كان
تاريخ هذه العلاقات يأخذ طابعاً من التعاون والتحالف حيناً، إلا أنه
اتسم بالصراع والاحتدام في أحيان أخرى كثيرة.
وقد عرفت المنطقة حروباً عديدة،
بعضها أخذ الطابع الديني (حروب الفرنجة التي دعاها الأوربيون الحروب
الصليبية) وإن كان هذا الطابع يخفي أغراضاً استعمارية استيطانية، كما
أخذ بعض هذه الحروب الطابع الاستعماري المكشوف الذي تمثل في حروب الإمبريالية
والتحرر الوطني. وكان لأوربا الدور الرئيسي بعد الحرب العالمية الأولى
في تجزئة البلدان العربية واستعمارها خاصة من خلال معاهدة سايكس بيكو،
وفي خلق ما يدعى بالحلم الصهيوني، وإصدار وعد بلفور وتسهيل هجرة اليهود
إلى فلسطين.
2-
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية،
كان لأوربا أيضاً دوراً أساسياً في زرع الكيان الصهيوني في الأرض العربية
عن طريق دعم قيام (إسرائيل) ومدها بالمساعدات المالية والعسكرية والتقنية،
كما شهدت العلاقة الأوربية – العربية في الفترة الماضية طابعاً صراعياً
محتدماً كانت أبرز صوره حرب السويس عام 1956، وحرب الجزائر.
3-
وخلال الحرب الباردة بين المعسكرين
الغربي بزعامة الولايات المتحدة، والشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي،
سادت العلاقات الدولية مرحلة من التوازنات التي افترضتها الثنائية
القطبية، حاولت أوربا في حالات عديدة أن تخلق نوعاً من علاقات التعاون
الثقافي والاقتصادي والسياسي مع دول المحيط الجيوبوليتيكي لأوربا الجنوبية
بالذات، من خلال الحوار والعلاقات الثنائية، في رد فعل أوربي تجاه
المنافسة بين الولايات المتحدة وأوربا في محاولة لكسب مواقع سياسية
واقتصادية في المنطقة.
4-
بعد حرب تشرين التحريرية عام 1973،
طرحت أوربا صيغتان للتعاون والحوار بين ضفتي المتوسط: الأولى محاولة
تأسيس"مؤتمر الأمن والتعاون المتوسطي" على غرار" مؤتمر
الأمن والتعاون الأوربي" وهي صيغة فشلت لأسباب عديدة، لا مجال
للتوسع هنا فيها.
أما الصيغة الثانية فهي" الحوار العربي الأوربي" الذي امتد سنوات دون
التوصل إلى النتائج المرجوة من الجانب العربي، إذ أخفق العرب في التأثير
على أوربا بشأن الصراع العربي والصهيوني، وانحياز أوربا إلى الجانب
الإسرائيلي، والسياسة الأمريكية الداعمة لإسرائيل، في حين استطاع الأوربيون
أن ينجحوا في مسعاهم الاقتصادي المتمثل في استمرار تزويدهم بالنفط
العربي بشروط تضمن مصالحهم كدول مستهلكة للنفط.
5-
في مطلع التسعينات، أسهمت أوربا
مع الولايات المتحدة في القضاء على قدرات العراق وتدميره اقتصادياً
وعسكرياً وعزله سياسياً وحصاره اقتصادياً. كما أسهمت في حصار ليبيا
ووقفت عاجزة عن أي تحرك. إيجابي في عملية تسوية الصراع العربي – الصهيوني.
وقبلت أن تكون السند الخلفي للمشروع الأميركي الصهيوني للتسوية.
ومع انهيار الاتحاد السوفياتي
وتفككه ونهاية الحرب الباردة تبدلت أنماط التحالفات في العالم، وظهرت
على الساحة الدولية مشاريع اقتصادية – سياسية تتجاوز التجمعات الإقليمية
القائمة وتربط العالم بتجمعات اقتصادية وأمنية كبيرة بقوة كبرى، وفي
ظل هذه الظروف قام تكتل "نافتا" بين الولايات المتحدة وكندا
والمكسيك، وأقامت الدول الآسيوية الصناعية منظمة "اسيان"
للتعاون الاقتصادي، وطرح مشروع الشرق الأوسط الجديد من قبل إسرائيل
بدعم وتشجيع ومشاركة الولايات المتحدة الأمريكية.
وهنا جاء الدور الأوربي، ليطرح
المشروع المتوسطي بهدف العودة إلى المنطقة العربية وجعل أوربا طرفاً
أساسياً فيها، تحقيقاً لمصالحها الحيوية. مما يعزز الموقع السياسي
والاستراتيجي لأوربا في المنطقة من خلال مظلة أمنية واقتصادية تكفلها
الشراكة الأوربية – المتوسطية، التي ستسهم من زاوية أخرى في قبول الوجود
الإسرائيلي في نسيج المنطقة العربية، ولكن تحت عنوان المتوسطية.
ثانياً: دور أوربا في منع وحدة العرب:
ظهر ذلك جلياً خلال وبعد الحرب
العالمية الأولى، في حين قدم البريطانيون تعهداً للشريف حسين بأن يوافقوا
على قيام دولة عربية في المشرق العربي، قدموا في الوقت ذاته وعد بلفور
1917 بإقامة وطن قومي لليهود، وعقدوا معاهدة سايكس – بيكو فيما بينهم
وبين فرنسا لاقتسام تركة "الرجل المريض" أي الإمبراطورية
العثمانية.
وعندما أقاموا"دولة إسرائيل"
كان واضحاً أن الهدف منع العرب في المشرق والمغرب من الالتقاء
بإيجاد حاجز بشري مفتعل من اليهود في فلسطين الأمر الذي أدى إلى تنامي
الشعور القومي. وامتد الغضب الشعبي العربي، ليتناول الأنظمة العربية
القطرية، والقوى التي تساندها، وتفجر هذا الغضب في مجموعة من التغيرات
التي كانت تهدد مصالح الدول الأوربية، مما جعلها تظهر على السطح عدائها
للعرب وتحالفها مع الصهيونية، في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956،
الذي قاد إلى تنامي الدور الأمريكي في المنطقة على حساب إنحسار
الدور الأوربي الذي بقي في الكواليس يمارس دوره في إحباط أي
عمل هادف إلى الوحدة العربية وتمثل هذا الدور على وجه الخصوص في موقف
أوربا من الوحدة السورية – المصرية إلى جانب الولايات المتحدة والصهيونية
والرجعية العربية، وكان الانفصال بين الإقليمين الشمالي والجنوبي،
هو الرد على تلك الوحدة ولم يكتف الغرب عموماً بذلك، إنما أيد وشجع
إسرائيل على عدوان 1967، فكانت الهزيمة التي غيرت مجرى التاريخ في
المنطقة.
ولم يكن صدور القرار 242 الملتبس
بصياغة أوربية سوى حلقة في نظرة أوربا إلى مسألة الصراع العربي – الصهيوني.
لقد بقي التوجس التاريخي للغرب
الأوربي من أي مشروع توحيد عربي يحكم النظرة الأوربية للعلاقة مع العرب،
ومع الحركة الصهيونية وقد رفدت المصالح الاحتكارية النفطية والمالية
هذا التوجس التاريخي من قيام وحدة عربية، وأدى هذا على وجه العموم
إلى تعزيز النظرة العدائية التاريخية تجاه العرب، وإلى تعزيز التحالف
الأوربي – الصهيوني بالمقابل.
إن توجس الغرب التاريخي من العرب
لم يظهر في القرن العشرين، وإنما قبل ذلك بكثير، ويكفي أن نذكر موقف
الغرب من محاولة محمد علي في القرن التاسع عشر وفي هذا المجال اقتبس
عن الدكتور فوزي منصور
ما جاء في رسالة اللورد بالمرستون وزير خارجية بريطانيا الموجهة إلى
سفيره في اسطنبول في 11/8/1840 حيث قال "إن الهدف الحقيقي لمحمد
علي هو أن ينشئ مملكة عربية تضم كافة المماليك المتحدثة باللغة العربية"
واقترح في رسالته " أن تفتح فلسطين للهجرة اليهودية والاستيطان
حتى ينشأ حاجز يمنع محمد علي من التفكير مرة أخرى في الوحدة مع سورية"
وكان نابليون قد سبقه في دعوة اليهود إلى القدوم إلى فلسطين وعندما
زار لامارتين الشاعر الفرنسي فلسطين عام 1834 أصدر كتاب عن مشاهداته
ومناقشاته مع أهل البلد وأرفق في هذا الكتاب ملخصاً سياسياً للحكومة
الفرنسية يؤكد فيه أن تلك الأراضي ليست أي بلد،وليس سكانه مواطنين
خليقين بالاعتبار "ومن ثم فإنها مكان رائع لمشروع إمبريالي
أو كولنيالي تضطلع به فرنسا. كما يقول إدوارد سعيد.
ثالثاً: يركز (بيان برشلونة)على بعض الأمور التي تهتم بها أوربا،وتعتبرها
مقلقة لها، وعلى سبيل المثال فإنها تريد:
1ـ "تعزيز التعاون، من خلال اتخاذ التدابير المختلفة، وقاية من الإرهاب، وعلى
محاربة الإرهاب معاً، محاربة أكثر فعالية"والمعروف أن تعبير "إرهاب"
يختلط في ذهن الأوربيين، ويلتبس مفهومه، فهم لا يفرقون بين الإرهاب
والمقاومة، كما إنهم يطلقون على الحركات الإسلامية تعبير إرهاب، بخلفية
حقد دفين على الإسلام يشاركهم فيه الأمريكيون والصهاينة. وقد
رفض الغرب عموماً،دعوة سورية لدراسة الإرهاب، والتفريق بينه وبين المقاومة
الوطنية لجميع أنواع الاحتلال.
2ـ يعالج البيان أيضاً مسألة الهجرة، والمقصود هنا، هجرة بلدان جنوب وشرق المتوسط
إلى أوربا. ويقول البيان: المشاركون "يوافقون على تقويه التعاون
فيما بينهم، لتخفيف ضغط الهجرةـ…" أما ما يدعى بالهجرة غير الشرعية،فيدعون
إلى "إعادة استقبال رعاياهم الذين يقيمون بصورة غير شرعية عن
طريق اتفاقيات أو ترتيبات ثنائية ".
ويعكس
هذا الموقف الخلفية العنصرية التي تعالج بموجبها، مسألة هجرة العرب
إلى دول أوربا.
ننتقل الآن
إلى الإجابة على السؤال الكبير الهام،كيف يمكن أن تقام شراكه حقيقية
على الصعيد الاقتصادي بين سورية وأوربا وما هي الشروط الموضوعية لذلك؟
أولاًـ لقد أردنا
في عرض الجانب التاريخي لعلاقة العرب وأوربا، أن نوجه الأنظار إلى
ضرورة العودة إلى الماضي من أجل بناء علاقات سليمة للحاضر والمستقبل.
وفي هذا الصدد يقول فيديريكو مايور:
"على الرغم من أن اهتمامنا
ينصب على يومنا وغدنا، فإن علينا أن نتفحص بدقة بضاعة الماضي التي
نحملها على ظهورنا، لا بل حتى أن نصنفها تصنيفاً مفصلاً، أننا نحمل
في عقولنا وفي قلوبنا أعباءً يجب أن نطرحها، وحدوداً يجب أن
نتجاوزها، إذا أردنا أن يكون المستقبل مختلفاً حقاً." من هذا
المنطلق أوردنا بعض جوانب العلاقة التاريخية بين العرب وأوربا لنظهر
مسؤولية أوربا، فيما وصلت إليه حال الأمة العربية، الآن فإذا لم تواجه
أوربا ذلك في عملية مراجعة حقيقية، وإذا لم تعترف بمسئوليتها، وإذا
ما استمرت في ترديد المفاهيم الاستعمارية السابقة حول(همجية)سكان الوطن
العربي وتخلفهم، وهي إنما جاءت لتنقل الحضارة إليهم، إذا لم تعترف
بأنها هي التي أوجدت المسألة اليهودية، وهي التي دعمت الحركة الصهيونية،
وهي التي خلقت الكيان الصهيوني في أرض فلسطين، وأمدته بالمال والسلاح،
وأتاحت له فرصة الحصول على أسلحة الدمار الشامل. إذا لم تعترف أوربا
بمسؤوليتها تجاه التخلف الذي تعيشه البلدان العربية، التي استعمرتها
سنين طويلة، ونهبت ثرواتها، ودمرت اقتصادها، ونشرت الأمية والجهل والفقر.
إذا لم تعترف أوربا بذلك كله،
كيف يمكن أن تبنى علاقات تعاون ومشاركة بينها وبين العرب؟ وكيف يمكن
أن يكون للشراكة المقترحة أي مستقبل لا يقوم على تصفية آثار الماضي؟
وتصفية آثار الماضي تكون بالاعتراف بالمسؤولية، ثم الاعتذار، ثم التعويض
بالمساعدة على تجاوز مخلفات الماضي أي بردم هوة التخلف.
إن الشراكة الحقيقية، يجب أن
تبدأ من هنا. العرب مستعدون فهل أوربا مستعدة لذلك؟
ثانياً: في الموقف الأوربي من مسألة الصراع العربي – الصهيوني، فإلى جانب
دور أوربا في خلق دولة إسرائيل وتزويدها بما تحتاجه من مال وسلاح وتكنولوجيا
وجميع ما يتصل بأسباب القوة، فإن أوربا أسهمت فيما آلت إليه المفاوضات
منذ مؤتمر مدريد 1991، فهي قبلت أن يكون دورها ثانوياً وملحقاً بالدور
الأمريكي، وهي وإن كانت مسؤولة عن الصياغة الملتبسة للقرار 242، فإنها
لم تفعل شيئاً من أجل تنفيذه، وانحازت باستمرار إلى الجانب الإسرائيلي
وإلى تفسير إسرائيل لبنود القرار ودعمت الدور الأمريكي. كما أنها لم
تفعل شيئاً تجاه تنفيذ القرار 425 بشأن الانسحاب – دون شروط – من الأراضي
اللبنانية المحتلة، إضافة إلى أنها لا تربط بين الانسحاب وإقامة سلام
بين إسرائيل ولبنان أي أنها تدعم موقف إسرائيل في هذا المجال.
إن قيام شراكة حقيقية بين أوربا
وسورية، يتطلب أن تقف أوربا بوضوح إلى جانب سورية في مسألة الانسحاب
من الأراضي السورية التي احتلتها إسرائيل عام1967. إذ كيف يمكن أن
تقيم شراكة متساوية.بين جانبين أحدهما معتدى (إسرائيل ) والأخر معتدى
عليه (سورية) في آن واحد، دون أن تقع في محذور الانحياز، وتغليب
جانب على أخر، وتأييد عدوان شريك على شريك آخر ؟؟
ثالثاً: يظهر عدم التكافؤ في علاقة الشراكة على نحو
واضح … فأوربا موحدة، متقدمة، عملاق اقتصادي. وسورية جزء من الأمة
العربية، بلد صغير، يحاول أن يبني نفسه اقتصادياً، تفصله هوة واسعة
عن التقدم العلمي والتكنولوجي الأوربي، ولا مجال لمقارنة اقتصاده باقتصاد
بلد أوربي صغير واحد، فكيف مع اقتصاد أوربا بأكمله.
أوربا تريد الشراكة، والعرب
(ومنهم سورية) كذلك يريدونها .ولكن لا سبيل إلى قيام شراكة بين أطراف
غير متكافئة. والحل كما هو واضح أن يحاول الطرف الأقوى، أن يساعد الطرف
الأضعف في الارتقاء إلى مستواه، وهدم الهوة السحيقة التي تفصلهما علمياً
وتكنولوجياً واقتصادياً.
إن المخصصات المرصودة من الجانب
الأوربي لا تكفي،إطلاقاً لسد الفجوة، وحتى أنها لا تكفي للتخفيف من
الآثار الضارة للشراكة في إطار منطقة التجارة الحرة لبلد واحد من بلدان
جنوب وشرق المتوسط.
رابعاً: تركز أوربا في مشروعها للشراكة في الجانب الاقتصادي على إعطاء الأولوية
لتعزيز القطاع الخاص، ووضع الإطار القانوني والتنظيمي الملائم لاقتصاد
السوق، و"تصويب البنيات الاقتصادية والاجتماعية وتنظيمها وتحديثها
"اعتماداً على ذلك و( متابعة السياسات المرتكزة على مبادئ الاقتصاد
الحر وتطويرها) وإذا كنا نقف إلى جانب تعزيز القطاع الخاص، لكننا لا
نفهم الإصرار من الجانب الأوربي على التدخل في الشؤون الداخلية، فأي
بلد حر،في اختيار نظامه السياسي والاقتصادي وإصرار أوربا على تشميل
بيان برشلونه نصاً يقول بمتابعة السياسات المرتكزة على مبادئ
الاقتصاد الحر وأن يوضع إطار قانوني وتنظيمي ملائم لاقتصاد السوق يعد
تدخلاً في شأن داخلي للبلدان الداخلة في الشراكة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن
التساؤل هو عن مدى ملائمة اقتصاد حرية السوق،والاقتصاد الحر، لعملية
التنمية المرجوة، فإذا كان الاقتصاد الحر، قد أسهم في تحقيق التنمية
والتقدم التكنولوجي والحضاري في أوربا ضمن ظروف معينة، فهل يستطيع
ذلك في ظروفنا الحالية؟– وهل بالإمكان إعادة نفس الظروف التي عاشتها
أوربا إلى الأوضاع الحالية في البلدان العربية؟
لقد
انتصر النظام الرأسمالي في أوربا على حساب تشغيل العمال من الأطفال
والنساء واستغلالهم في ظروف إنتاج صعبة، وحقق النظام الرأسمالي نجاحاته
عن طريق استعمار بلداننا وبلدان أخرى فيما يدعى العالم الثالث، ونهب
ثروات وخيرات تلك البلدان. فهل تستطيع البلدان النامية،ومنها سورية،
أن تسلك نفس السلوك سواء في داخلها أم في علاقاتها مع البلدان الأخرى؟
إن لكل دولة ظروفها، ولكل مرحلة
تاريخية متطلباتها، ولا يمكن الآن اعتماد آليات السوق لوحده في خلق
الظروف المواتية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولا يمكن للقطاع
الخاص لوحده أن يقوم بعبء التنمية في ظروفنا الحالية، وإن كان له دوراً
هاماً من خلال سياستنا الاقتصادية المتمثلة في التعددية الاقتصادية.
إن إصرار أوربا على التدخل في خيارات السياسات الاقتصادية والمالية،وقيام
مؤسساتها بالاتصال المباشر مع أفراد من القطاع الخاص، وغرف التجارة
والصناعة ومنظمات المجتمع المدني، يحمل الكثير من معاني محاولات تهميش
دور الدولة، والاعتداء على سيادتها الوطنية والتأثير في خيارات السياسات
الاقتصادية والمالية المناسبة لظروفنا.
خامساً: تتضمن الشراكة الاقتصادية: الإقامة التدريجية لمنطقة تجارة حرة
بالسلع المصنعة (أي منتوجات الصناعات التحويلية) بحيث تكون مستكملة
بحلول عام 2010، بإزالة تدريجية، حسب جدول زمني، للرسوم الجمركية والقيود
الإدارية والكمية والنقدية على التجارة بهذه السلع بين الطرفين.
وفي هذا المجال يقول الدكتور
محمد الأطرش
إنه "يتعين التفريق بين حالتين: الأولى اثر منطقة التجارة الحرة
في الصناعات التحويلية العربية القائمة، والثانية أثرها في مقدرة العرب
في المستقبل على إقامة صناعات متقدمة غير موجودة في الوقت الراهن"
وباختصار فإنني أشاطر د.الأطرش
في وجهة نظره على النحو التالي
1ـ إن إقامة منطقة تجارية حرة بين كتلة أوربية ضخمة وموحدة ومتقدمة جداً وبين أقطار
عربية متوسطية صغيرة ومتفرقة وأقل تقدماً بكثير، سيؤدي إلى تكريس تخلف
هذه الأخيرة.
2ـ سيكون أثر منطقة التجارة الحرة في الصناعات العربية التحويلية القائمة، إما
القضاء على أغلبها أو التأثير فيها سلبياً.
3ـ والأثر الأخطر لهذه المنطقة يتمثل في الحيلولة في المستقبل دون تطوير صناعات
تحويلية عربية غير قائمة حالياً، أو قائمة على نطاق محدود.
4ـ ستؤدي منطقة التجارة الحرة
إلى استفحال البطالة في الأقطار العربية المتوسطية.
ويستذكر
د.الأطرش، ما آلت إليه سياسة حرية التجارة الخارجية التي أجبرت عليها
مصر وسورية في القرن التاسع عشر، عندما أجبرتا كجزء من الإمبراطورية
العثمانية على أن تفتحا أسواقهما على حرية التجارة الخارجية، في ظل
تقسيم عمل دولي لصالح أوربا حيث تخصصت في إنتاج المواد الأولية والسلع
الزراعية والخدمات السياحية والسلع المصنعة الخفيفة ذات التقانة البسيطة.
والمعروف أن أسعار هذه، المنتجات
تميل في الأجل الطويل إلى الانخفاض، مما أدى على نحو عام إلى تكديس
التخلف الكلي أو النسبي، وخاصة في مجال اكتساب أسباب القوة بجميع نواحيها.
لقد لجأت الدول الرأسمالية الصناعية
في القرن التاسع عشر إلى الحماية لبناء قاعدة صناعية متقدمة كما أثبتت
التجربة التاريخية. وإن حرية التجارة التي فرضتها بريطانيا في القرن
التاسع عشر على دول العالم الثالث الأكثر تقدماً، والتي استعمرتها
بشكل مباشر وغير مباشر،أدت إلى إحباط تنمية صناعية واعدة في هذه الأقطار
سادساً: تميل أوربا باستمرار إلى استفراد الدول العربية،لتضعف
الموقف التفاوضي لكل منها. فهي تستبعد ليبيا بحجة الإرهاب، في حين
تمنح إسرائيل موقفاً متميزاً وتعطيها مزايا إضافية، وتستبعد العراق
ودول الخليج،وتعطي للشراكة اسماً وعنواناً يبعد عن المنطقة الصفة العربية.
إن استبعاد ليبيا، وهي الدولة
الممتدة على مسافة 1300كم على ساحل البحر الأبيض المتوسط الجنوبي،
ليس له سوى تفسير واحد هذا التفسير هو أن هذا الاستبعاد سياسي، مرتبط
بالمحاصرة الأمريكية لهذا البلد العربي المتوسطي. وهذا أمر يثير قلق
العرب من خلفيات وتوجهات السياسة الأوربية المستقبلية.
ولا يمكن فهم استبعاد دول الخليج
إلا بتفسير ذلك بأنه محاولة لشق الصف العربي، فإذا كانت هذه الدول
بعيدة عن البحر الأبيض المتوسط فكيف يمكن تيرير ضم دول أوربية بعيدة
أيضاً عن هذا البحر؟ وإذا كانت أوربا قد ضمت الأردن إلى منتدى برشلونة،
وهو بعيد أيضاً عن البحر،فكيف يمكن فهم استبعاد السعودية والعراق وهما
على حدود الأردن؟
إن هذا يدعونا للقول إن الدعوة
إلى المتوسطية، شأنها شأن الدعوة إلى الشرق أوسطية، ما هي إلا محاولة
غربية أوربية، لتكريس التجزئة في الوطن العربي، والقضاء على الهوية
العربية في المنطقة العربية، وجعل إسرائيل تبدو مقبولة بعد أن يتم
الاعتراف بوجودها من خلال ما يدعى بمسيرة السلام.
لقد
كان الحوار العربي – الأوربي، يتم بين العرب كمجموعة، والأوربيين كمجموعة
مقابلة، أما المشروع المتوسطي (وكذلك الشرق أوسطي) فهو تكريس هوية
جديدة هي الهوية (المتوسطية) لبعض العرب، ولن يكون ذلك إلا على حساب
الهوية العربية، لأن هذه التكتلات ليست تكتلات اقتصادية بحتة وإنما
هي: سياسية وثقافية تربط بعض العرب بدائرة حضارية أخرى. وتبعدهم عن
دائرتهم الحضارية العربية – الإسلامية وإلى جانبه ذلك فإن مثل هذه
المشروعات أدت وتؤدي إلى إنهاء النظام الإقليمي العربي بعد أن تعرض
للتفكك أثر حرب الخليج الثانية.
إن في تركيز أوربا على الجغرافيا
والاستراتيجيا، إقصاء للعرب (أو بعضهم) عن التاريخ والثقافة والانتماء
القومي، مما سيؤدي إلى تراجع في المفهوم القومي العربي فكراً وممارسةً.
أما استفراد الدول العربية والمناقشة
مع كل منها على حدة، وعقد اتفاقات معها واحدة تلو الأخرى بدلاً من
أن يتم التفاوض معها جماعياً، فهذا يبرهن مرة أخرى على رغبة أوربية
عميقة بتمزيق العرب واستمرار تجزئتهم ومنع التنسيق فيما بينهم، واستبدال
تكتلهم كعرب، بكتل أخرى تربطهم فراداً.
سابعاً: إن استفراد البلدان العربية، وضم إسرائيل للشراكة، يعطي فكرة أخرى
عن الازدواجية في المعاملة، والكيل بمكيالين، وأحياناً أكثر، فإن إلقاء
نظرة على نتائج الشراكة مع المغرب وتونس وإسرائيل يعطي فكرة واضحة
عن تلك الازدواجية، فالاتفاق مع إسرائيل يمنحها مزايا وشروط تفضيلية
في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة، كما يسمح لها بالمشاركة في اللجان
التي تتولى برامج البحوث والتنمية من دون أن يعطيها حق التصويت. وهذا
وضع جديد لا يمنح لدولة من خارج الاتحاد.
ثامناً: ثمة أمر آخر يدعو إلى الريبة، وهو أن الشراكة تقوم على الانتقاء
وعدم التكافؤ فهي تميز بين حرية تبادل السلع وحرية انتقال الأشخاص
فتنزيل الحواجز أمام الأولى، وتضعها أمام الثانية خوفاً من المهاجرين
من دول المغرب خاصة إلى دول أوربا.
هذا الانتقاء وعدم التكافؤ يظهر
أيضاً في الاقتصار على السلع الصناعية(الصناعات التحويلية) واستبعاد
المنتوجات الزراعية، واستثناء المكوّن الزراعي الذي يدخل في إنتاج
السلع المصنعة. مما يعني تهميشاً للزراعة.
إن إصرار أوربا على قيام منطقة
تبادل تجاري حر في السلع المصنعة فقط هو إصرار يلبي حاجاتها ويعكس
مصالحها، ولا يعير مصالح الدول العربية المتوسطية أي التفات.
تاسعاً: إذا ما انتقلنا إلى الجانب الأوربي، نجد أن أوربا، تفتقر حالياً
إلى سياسية خارجية موحدة تجاه القضايا العربية، وبهذا الصدد يقول كلودشيسون:"
ليست لدى أوربا سياسة خارجية مشتركة، ومن قبيل الخطأ الحديث عن سياسة
أوربية، فبريطانيا ما زالت مرتبطة بسياستها الماضية، ومرتبطة بالسياسة
الأمريكية، وألمانيا عازمة على ألا تكون لها سياسة متميزة في(الشرق
الأوسط) وأن تهتم بالتجارة. وذلك بسبب ذكريات ما حدث في الحرب العالمية
الثانية وهذا الواقع لا يمكن إنكاره…" هذا في حين أن من السهل
الحصول على مواقف اقتصادية أوربية" لكن ذلك غير كافٍ، إلا أنه
أسهل بالنسبة إلى أوربا في حين أن العرب يحتاجون إلى مواقف سياسية
أوربية مشتركة إضافة إلى المواقف الاقتصادية المشتركة".
علماً أن الموقف الاقتصادي المتمثل
الآن في إقامة منطقة تجارية حرة، يعتبر غير كافٍ حتى من وجهة نظر بعض
الأوربين وبهذا الصدد يقول كلودشيسون أيضاً:"…. نطالب بالتنمية
لجنوب حوض البحر المتوسط…. لا يمكن أن ندخل بلدان جنوب الحوض المتوسط
في المجموعة الأوربية لكنا نريد تنميتها، إن هذه التنمية لا بدّ أن
تمضي إلى أبعد من مجرد التبادل التجاري الحر. لابد من خلق فضاء اقتصادي
مشترك".
ويعترف كلودشيسون بأن منطقة
التبادل الحر على النحو المقترح" تخلق مشكلة كارثية بالنسبة للبلدان
النامية" لذا يطالب فرنسا بان تتحمل مسؤوليتها، وإذا فعلت ذلك
فسيتبعها آخرون.
فإذا كانت هذه بعض المواقف تأتي
إلينا من أوربا، فلماذا نجد أن البعض يتسابق لحمل شعارات المتوسطية
والشراكة المتوسطية؟
وبعد ….
هل ابتعدنا
في هذا الحديث عن موضوع العنوان؟…
اعتقد لا……
فالعنوان يشير إلى الشروط الموضوعية لقيام
شراكة سورية أوربية على صعيد الاقتصاد.
ولقد تحدثنا عن السياسة أيضاً،
وباعتقادي أن لا فصل بين السياسة والاقتصاد. فالاقتصاد الآن، وقبل
ذلك، وسيظل ممارسة سياسية، كما أن لا سبيل لنكران دور السياسة في الاقتصاد.
وقد تحدثت، على نحو عام، عن
العلاقات العربية– الأوربية ولم أخص سورية في الحديث… رغم أن ما يجري
الآن وما هو مطلوب الحديث عنه يتعلق بشراكة اقتصادية أوربية سورية.
والواقع أن أوربا تريد الاستفراد
مع كل بلد عربي لوحده، مع أنها تعمم نموذجاً واحداً في التعامل مع
دول المنطقة (عدا إسرائيل فلها معاملة خاصة) فالمطروح على العرب حول
المتوسط صيغة واحدة، بينما المطلوب محاورتهم فراداً.
لذا اعتقد لا يوجد وضع خاص تتميز
به سورية في موضوع الشراكة. فسورية كالمغرب وتونس، وكمصر ولبنان… لا
نصوص خاصة ولا خصوصية.
ربما في تحديد (ثمن) الشراكة
من خلال كعكة المساعدات المخصصة، واعتقد أن المبلغ الذي سيخصص
لسورية اتفه من أن يذكر، أما ما سيحل باقتصادها جراء المنطقة الحرة
مع أوربا وما سيحصل بالاقتصاد السوري فهو فعلاً ما دعاه شيسون بأنه
يخلق" مشكلة كارثية" لن يخفف من وقعها الفتات الذي سيلقى
من الجانب الأوربي.
أخيراً…
فإننا أحوج ما نكون إلى مشاريع
تنبع من داخل الوطن العربي، لصالحه، وصالح اقتصاداته، وصالح مستقبله
ومستقبل أجياله فالمشاريع المستوردة لن تكون لصالحنا على الإطلاق وعلى
العرب رفض الالتحاق بتكتلات كبرى سواء في إطار الشرق أوسطية، أو المتوسطية،
ذلك أن هذا الالتحاق سوف يزيد من تركز الأنشطة الاقتصادية في الدول
الأكثر تقدماً ويزيد من حدة النمو غير المتساوي بما يؤدي إلى زيادة
حدة الفروق بين المناطق الأكثر والأقل تقدماً. هذا إلا إذا التزمت
الدول المتقدمة ببرنامج فعال لتسريع التنمية في المناطق الأقل نمواً،
وللحد من الفجوة ين مستويات التطور والتقدم في مختلف مناطق التكتل
الجديد. فهل أوربا مستعدة لذلك؟ إذا كان الأمر كذلك، فإننا نسير في
الاتجاه الصحيح نحو إقامة شراكة حقيقية….
وهل أوربا مستعدة ضمن الظروف
الحالية، أن تعترف بخطئها في خلق الكيان الصهيوني، وتبدأ بدفع ثمن
هذا الخطأ، عن طريق الإسهام الفعال في مسيرة السلام القائم على العدل،
والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة ووقف إقامة المستعمرات اليهودية
واسترجاع حقوق عرب فلسطين بالعودة وحق تقرير المصير وإقامة دولتهم
المستقلة؟…
هل أوربا مستعدة ضمن الظروف
الحالية لوضع حد للغطرسة الصهيونية؟ والوقوف في وجه الخزعبلات والأساطير
الوهمية اليهودية؟ لقد آن للعرب، ولأوربا، أن يواجهوا الأسئلة الصعبة،
قبل أن يبحثوا بأية علاقة مستقبلية. وآن للعرب أن يواجهوا الحقيقة
في هذا العالم المتغير الذي تسيطر عليه قوى عاتية من الرأسمالية المتوحشة،
والذي تسيطر عليه أوهام العولمة، وقوى السوق، ونزعات الاستهلاك المدمرة،
والتسابق الوحشي نحو امتلاك وسائل القوة، والتكتلات الاقتصادية، آن
للعرب أن يواجهوا ذلك، والمواجهة الحقة هي في وحدتهم، فهي السبيل إلى
القوة، وهي السبيل إلى وقف زحف التهميش، وهي السبيل إلى التمسك بالهوية،
وبالتواجد في عالم لا يعرف سوى القوة والمصالح.
إن المخرج الوحيد من حالة التردي في أوضاع العرب اليوم، هو بذل
جهود مكثفة لتحقيق تنمية شاملة وتكاملية ومستقلة على المستوى القومي،
في إطار من التعاون الذي يقرب بينهم، وينهي النزاعات، ويلتفت إلى المستقبل،
ويحمل معانٍ حضارية سامية، في إطار ديمقراطي يشمل تأمين الاحتياجات
المادية وغير المادية للمواطنين ويكفل حقوق الإنسان الأساسية ويحقق
تكافؤ الفرص بين المواطنين ويفسح المجال لمشاركتهم في صنع القرار ويمكنهم
من تحقيق ذاتهم وإشباع حاجتهم إلى الانتماء في نفس الوقت.
هذا الطموح هو البديل، وهو الرد
على كل من يتساءل أمام الطروحات الخارجية والمشاريع التي تقدم من هنا
وهناك، ما هو البديل؟
نعم البديل هو المشروع العربي
النهضوي المتجدد ضمن مقولات المستجدات على الساحة الإقليمية والعالمية.
وعندها، فقط، يمكن إقامة علاقات موضوعية مع سائر التكتلات الاقتصادية،
وفي مقدمتها الاتحاد الأوربي، من منطلق التكافؤ، وليس من منطلق الإلحاق
والتبعية.
د. منير الحمش