حين قرع جرس التداول الرسمي لبورصة دمشق، وأعلن دخولنا مرحلة اقتصادية جديدة، كانت المؤشرات العالمية مازالت تترنَّح من ضربات الأزمة المالية، إلا أننا قبلنا الرهان وأعلن القائمون على السياسات الاقتصادية أننا نريد البدء من حيث انتهى الآخرون، ورغم أنَّ المراقبين أكَّدوا أهمية إعادة النظر في
موضوع إطلاق البورصة، إلا أنَّ الأسئلة بقيت معلَّقة برسم الأداء الفعلي لسوق دمشق للأوراق المالية، وأتى الواقع ليؤيِّد كلام المتشائمين، فعدد الشركات مازال قليلاً، كما أنَّ حجم التداول ضعيف، والظروف العالمية تكاتفت لترسم طريقاً غائب الملامح يشي بمستقبلٍ ليس في أفضل حالاته.. وبعيداً عن كلام القائمين على البورصة، الذين بشَّرونا كثيراً بواقعٍ أفضل، ولكن مع بعض الصبر، نجد على الطرف الآخر من المعادلة كلام المراقبين والمحللين، ولهم آراؤهم حول واقع الاستثمار في سورية، وما إذا كان للبورصة الأهمية الكافية لدعم الاستثمارات وتأمين السيولة في الوقت الذي تعجُّ فيه المصارف بالمدَّخرات من دون وجود قنواتٍ استثمارية لها.
¶ أوضاع صعبة
إطلاق العمل الرسمي لسوق دمشق للأوراق المالية أتى في ظروفٍ بالغة الدقة، كما يقول الدكتور أكرم حوراني (خبير اقتصادي) ويضيف: «محلياً، المناخ الاستثماري في سورية يعاني من بعض الصعوبات، والوضع الاقتصادي العام والمؤشرات الاقتصادية العامة فيها تراجع، وزاد من حدَّة هذا التراجع بدايات ظهور انعكاسات للأزمة المالية العالمية، لذلك فالمستثمرون متخوِّفون عموماً، وكل مستثمر في لحظة الترقُّب لا يندفع إلى اتخاذ قرارات استثمارية مهمة».. ورغم أنَّ حوراني يرى أنَّ الظروف الصعبة لم تكن مواتية لإطلاق البورصة، إلا أنَّ البعض يرى أننا كنا مستعجلين على إطلاقها، فيقول الدكتور عيد أبو سكة: «أنا لستُ مِن هواة الركض نحو إنشاء سوق للأوراق المالية، لا سيما أننا في زمنٍ تنهار فيه الأسواق المالية العالمية، ويتَّضح يوماً بعد آخر أنها تمثِّل جبل الجليد الظاهر من الأزمة»..
¶ مطبُّ محتمل
بعض الخبراء رأى في تأخُّر البورصة إنقاذاً للاقتصاد السوري من مطبٍّ كبير، فيقول الدكتور قدري جميل: «يوم افتتاح البورصة قلتُ الحمد لله أنها جاءت متأخِّرة، فتصوَّروا لو أنها أتت قبلاً وبدأت العمل بكامل حجمها، لكانت تحوَّلت أسوةً بغيرها من البورصات العربية إلى ثقب أسود يمتصُّ مدَّخرات ووفورات المواطنين السوريين، فالأسواق العربية خسرت من 25 % إلى 72 % من مجمل قيمتها السوقية خلال عام 2008، فنظام البورصة العالمي منفَّذ على أساس أنه إذا هبطت الأسواق الرئيسية، فهي تدعم نفسها بالأسواق الثانوية، لذلك تأخُّر البورصة السورية أنقذ جانباً مهماً من الاقتصاد السوري».. ويضيف جميل: «نظام البورصة العالمي بعد عام 1995 منفَّذ على أساس تدوير الأموال الفائضة؛ فنسبة 90 % من المداولات في البورصات العاملة هي مضاربات، وليس لها علاقة بالاقتصاد الحقيقي، بينما قبل ذلك التاريخ، كانت المبادلات لها علاقة بالاقتصاد الحقيقي».. ويتساءل جميل: «اليوم، ماذا يعني أن نقول، إنَّ حجم المبادلات في البورصات العالمية اليومي يتراوح بين تريليون ونصف إلى تريليوني دولار، بينما حجم الناتج العالمي لا يتجاوز 60 تريليوناً سنوياً، فهناك تداول غير حقيقي، أي أنه بيع وشراء من أجل الربح، وليس له علاقة بعملية الإنتاج، فهناك عطل من حيث المبدأ عالمياً في البورصة»..
أبو سكة، يشير إلى نقطةٍ أخرى تتعلَّق بتأمين السيولة للاستثمار، والتي إحدى قنواتها هي بورصة دمشق، فيقول: «إذا كنا لا نستطيع أن نعوِّل على المصارف في أن تقوم بدور استثماري، فهي لم تفتح قنوات للاستثمار.. ربما بدأ بعض التحرُّك الخجول، فالسياسات المصرفية بعيدة عن قدرتها على إيجاد استراتيجية استثمارية، فلن يكون هناك دور كبير لسوق الأوراق المالية في هذا المجال»... ويضيف: «الأداء ضعيف، وربما يكون هناك بعض التحسُّن على المدى المتوسط أو البعيد، ولكن الشرط الأساسي هو أن يتحسَّن كمَّاً ونوعاً».. ويضيف أبو سكة: «من الضروري أن يتمَّ التوجُّه نحو الاقتصاد الحقيقي».. وحوراني يتَّفق مع أبو سكة، فيقول: «هدف السوق جمع المدخرات وتقديمها للمستثمرين، ولكن إذا كان لدى المستثمرين أموال كافية أو يجدون أموالاً في المصارف، فالسوق الآن في هذه المرحلة لن تؤدِّي دورها المطلوب، ولكننا بحاجةٍ إلى وقت، ويمكن أن يُلعب هذا الدور في المستقبل».. وبين رأيي حوراني وأبو سكة هناك رأيٌ للدكتور قدري جميل، الذي تساءل: «لماذا لا تضع المصارف السورية أموالها في الاستثمار؟.. والمواطن نفسه، لماذا لا يستثمر مدَّخراته؟.. المشكلة هي في عدم دعم قطاعات الإنتاج الحقيقية كالصناعة والزراعة»..
¶ دور سلبي
يشير حوراني إلى أنه من المبكِّر الحكم الآن على مستقبل البورصة، فيقول: «السوق وليدة، وبحاجة إلى فترة طويلة نسبياً حتى تقلع بشكل جيد؛ فحجم التعامل ضعيف ومازال بمئات الآلاف أو ببعض الملايين، مع العلم بأنَّ رقم أعمال الشركات المدرجة وصل إلى حوالي 15 مليار ليرة، ومع ذلك نأمل في أن يتزايد هذا الرقم في المستقبل، ورغم أنه مرتبط بالظروف الاقتصادية العامة، والتي أساسها شبح الركود»...
أداء متوقع
لعلَّ الاقتصاديين في غالبيتهم يبدون بعض التشاؤم، فيقول أبو سكة: «كان من المتوقع أن يكون الأداء ضعيفاً في الأشهر الأولى، نتيجة قلة عدد الشركات المدرجة؛ فالشركات العائلية ترفض التحوُّل إلى شركات مساهمة لأسباب عديدة، أهمها الأسباب التشريعية المتمثلة في القانون رقم 61 الذي لم يكن مكتملاً، وبحاجة إلى إعادة نظر»...
وإلى نفس القانون، يشير حوراني، فيقول: «يقضي القانون بتحويل الشركات العائلية إلى شركات مساهمة، وحتى الآن لم تتحوَّل أيُّ شركة بسبب بعض المشاكل الفنية والمشاكل المالية التي أزيل بعضها مؤخراً؛ حيث تمَّ الاعتراف وقبول تقدير شهرة المحل في إعادة تقييم الأصول، ولكن مازال هناك بعض المراحل الفنية التي تعيق عملية الانتقال، مثل ضرورة مرور سنتين على آخر موازنات مصدَّقة وفق إعادة تقييم الأصول الجديد.. ولذلك، فإنَّ حجم الشركات المدرجة في سوق دمشق للأوراق المالية ضعيف جداً، يُعدُّ على أصابع اليد، والمناخ الاستثماري العام غير مشجِّع.. في السوق، هناك طلبات للشراء، ولا توجد عروض للبيع.. هذا يعني- على طريقة صغار المستثمرين- أنَّ كلَّ مستثمر يفضِّل البقاء على وضعه الحالي، فاليوم الظرف غير ملائم للانتقال من سهم شركة ما إلى سهم شركة أخرى، في حين تعجُّ المصارف بالموجودات التي لا تلقى قنوات للتوظيف، ورغم أنَّ سعر الفائدة منخفض، ومع ذلك لم يُلاحظ أنَّ هناك تحوُّلا كبيراً في سحوبات المصارف، والسبب هو عدم وجود قنوات استثمارية ملائمة كان يمكن أن تستقطبها السوق»..
¶ شركات أكثر
السوق يجب أن لا تعمل في الفراغ، ويجب أن يكون هناك شركات للتداول وشركات وساطة وخبراء، وأيضاً نقول، إننا خلال فترة قصيرة لا نستطيع تقييم الوضع بشكل كامل. الدكتور قدري جميل يرى الوجه الآخر للمسألة، فيقول: «المشكلة الأساسية ليست في حجم المبادلات اليومية في البورصة؛ فليست هي التي ستخبرنا إن كانت البورصة تعمل أو لا تعمل.. على العكس، فإنَّ حجم المبادلات اليومية في الأسواق العالمية تريليون ونصف، وهو رقم دلالاته سلبية، فهو 90 % مضاربة، و10 % منه حقيقي، فالرقم لا يعني شيئاً، فالمهم هو حجم المبادلات التي لها علاقة بالاقتصاد الحقيقي، وهذا هو السؤال؟ لا أعتقد أنَّ البورصة السورية تأخذ في الاعتبار هذا العائد، فيجب عليها تفعيل المبادلات في القطاع الحقيقي، أي البورصة في القطاع الحقيقي، والتي لها علاقة بالسهم والربح وعملية التدوير، فالدورة الإنتاجية أكبر بكثير من دورة البيع والشراء للسهم، والمشكلة أنه لا يمكن تطبيق آليات خارج الآليات العالمية، وكلما تأخَّر الانطلاق الحقيقي للبورصة كان ذلك في مصلحة الاقتصاد والمواطن السوري، فالشركات المدرجة ستزيد على ثمانٍِ، ولكن لن تكون بالمئات؛ فالسوق السورية ليس لها حظ في أن تكون فعَّالة، والسبب هو الظروف العالمية»...
¶ وقت قصير
هناك مَن يرى أننا نطلق الحكم قبل إعطاء المدة الكافية لعمل البورصة، فيقول أيهم أسد (خبير اقتصادي): «من الصعب الآن وخلال هذه الفترة الوجيزة من انطلاق البورصة الحديث، تقديم تحليل نهائي عن أداء السوق، أو تقييمها بدقة، فالسوق ناشئة وتعمل في ظروف مرحلة التحوُّل الاقتصادي التي تتَّسم في الأساس بعدم الاستقرار والتقلبات، بالإضافة إلى أنها بدأت العمل والاقتصاد السوري محاط باضطرابات مالية اقتصادية عالمية ستؤثِّر بشكل مؤكَّد في الاقتصاد».. ويضيف أسد: «يمكن الحديث عن الهيكلية الحالية للسوق، حيث تتَّسم هذه الهيكلية بنقطتي ضعف أساسيتين، هما؛ ضعف عمق السوق الناتج أساساً عن قلة عدد الشركات المدرجة والذي ينعكس بدوره بصورة مباشرة على ضعف كفاءة وأداء السوق من حيث تحديد القيم السوقية للأسهم وعدد الصفقات المنفَّذة فيها، أما النقطة الأخرى فتتعلَّق بطبيعة الشركات المدرجة في السوق؛ حيث تهيمن شركات الخدمات بالمطلق على هيكل السوق، وتحديداً المصارف، كما تفتقد السوق في الوقت ذاته الشركات الزراعية أو الصناعية بمختلف تخصُّصاتها، أي أنها ما زالت تفتقد شركات الاقتصاد الحقيقي، وبالتالي فإنَّ الهيكلية الحالية للسوق لا تعبِّر عن حقيقة الاقتصاد خارج السوق»..
ولكن، ضعف ثقافة الأعمال وابتعادها عن التحوُّل إلى شركات مساهمة، وبالتالي الابتعاد عن البورصة، يبقى عائقاً. هذا ما يشير إليه أسد، فيقول: «إنَّ تعميق السوق المالية وتطويرها وتغيير هيكلها الحالي، أمور مرتبطة بشكل أساسي برغبة المزيد من الشركات المساهمة في الانخراط في البورصة، وبرغبة الشركات العائلية والشركات المحدودة المسؤولية في إعادة تقييم أصولها والتحوُّل إلى شركات مساهمة أيضاً وفق نصِّ المرسوم التشريعي 61 عام 2007 الذي سينتهي العمل فيه منتصف العام 2010».. ويتساءل أسد عن السبب الذي يبعد الشركات عن الدخول في سوق دمشق للأوراق المالية، مشيراً إلى أنَّ الواقع الحالي ضعيف، فالرسملة ضعيفة ولا يمكن أن يكون هناك مؤشِّر واضح لواقع الاقتصاد السوري، فالسوق اليوم لا يمكنها أن تعكس الصورة الحقيقية للاقتصاد السوري.
تذبذب مبرر
الصورة التي بدأت تطفو على السطح من خلال جلسات التداول ليست الحكم الوحيد، فتجارب الأسواق المالية العربية في معظمها تسير بنفس الاتجاه.. هذا الرأي الذي عبَّر عنه الدكتور محمد الجليلاتي، الرئيس التنفيذي لسوق دمشق للأوراق المالية، حيث يتساءل: «إذا عدنا إلى أيِّ سوق من أسواق الوطن العربي، فهل سنجد أنَّ جلسات التداول متساوية؟ طبعاً لا.. والدليل على ذلك التقرير السنوي لبورصة عمان المالية لعام 2008، حيث نجد أنَّ كلَّ يوم يختلف عن اليوم الذي سبقه، فحجم التداول يختلف بين عام وعام، حيث سجَّل التداول عام 2004 نحو 3 ملايين دينار، بينما كان عام 2005 نحو 16 مليون دينار، ثم انخفض عام 2006 إلى نحو 14 مليون دينار، وفي 2007 انخفض أيضاً إلى 12 مليون دينار، وفي عام 2008 سجَّل نحو 20 مليون دينار، فالمعدَّل اليومي للتداول هو 15 مليون دينار، والسنة التي بعدها 69 مليون دينار، هذا متوسط التداول خلال السنة.. لكن، لو كان متساوياً على مدار الأيام لكان أعطانا أرقاماً متساوية، وبهذا نجد تذبذباً كبيراً في قيم التداول، فأحجام التداول تتوقَّف على وجود عدد من المشترين الذين يرغبون في الشراء وعدد البائعين الذين يرغبون في بيع أسهمهم في الشركات المدرجة».. ويعلِّق الجليلاتي: «من سمات سوق الأوراق المالية، وجود التذبذب؛ فحجم التداول في الأسواق المستقرَّة التي مضى عليها 30 عاماً أو أكثر، يشهد تذبذباً في التداول وتغييراً في أحجام التغيير وفق طبيعة السوق، يعني أنَّ تخفيض معدل الفائدة بنصف في المئة، قد يؤدِّي إلى زيادة أحجام التداول في السوق، ورفع معدلات الفائدة يؤدِّي إلى زيادة معدلات حجم التداول.
ما قبل النشوء
لعلَّ الاقتصاديين في غالبيتهم يبدون بعض التشاؤم، فيقول أبو سكة: «كان من المتوقع أن يكون الأداء ضعيفاً في الأشهر الأولى، نتيجة قلة عدد الشركات المدرجة؛ فالشركات العائلية ترفض التحوُّل إلى شركات مساهمة لأسباب عديدة، أهمها الأسباب التشريعية المتمثلة في القانون رقم 61 الذي لم يكن مكتملاً، وبحاجة إلى إعادة نظر»...
وإلى نفس القانون، يشير حوراني، فيقول: «يقضي القانون بتحويل الشركات العائلية إلى شركات مساهمة، وحتى الآن لم تتحوَّل أيُّ شركة بسبب بعض المشاكل الفنية والمشاكل المالية التي أزيل بعضها مؤخراً؛ حيث تمَّ الاعتراف وقبول تقدير شهرة المحل في إعادة تقييم الأصول، ولكن مازال هناك بعض المراحل الفنية التي تعيق عملية الانتقال، مثل ضرورة مرور سنتين على آخر موازنات مصدَّقة وفق إعادة تقييم الأصول الجديد.. ولذلك، فإنَّ حجم الشركات المدرجة في سوق دمشق للأوراق المالية ضعيف جداً، يُعدُّ على أصابع اليد، والمناخ الاستثماري العام غير مشجِّع.. في السوق، هناك طلبات للشراء، ولا توجد عروض للبيع.. هذا يعني- على طريقة صغار المستثمرين- أنَّ كلَّ مستثمر يفضِّل البقاء على وضعه الحالي، فاليوم الظرف غير ملائم للانتقال من سهم شركة ما إلى سهم شركة أخرى، في حين تعجُّ المصارف بالموجودات التي لا تلقى قنوات للتوظيف، ورغم أنَّ سعر الفائدة منخفض، ومع ذلك لم يُلاحظ أنَّ هناك تحوُّلا كبيراً في سحوبات المصارف، والسبب هو عدم وجود قنوات استثمارية ملائمة كان يمكن أن تستقطبها السوق»..
موضوع إطلاق البورصة، إلا أنَّ الأسئلة بقيت معلَّقة برسم الأداء الفعلي لسوق دمشق للأوراق المالية، وأتى الواقع ليؤيِّد كلام المتشائمين، فعدد الشركات مازال قليلاً، كما أنَّ حجم التداول ضعيف، والظروف العالمية تكاتفت لترسم طريقاً غائب الملامح يشي بمستقبلٍ ليس في أفضل حالاته.. وبعيداً عن كلام القائمين على البورصة، الذين بشَّرونا كثيراً بواقعٍ أفضل، ولكن مع بعض الصبر، نجد على الطرف الآخر من المعادلة كلام المراقبين والمحللين، ولهم آراؤهم حول واقع الاستثمار في سورية، وما إذا كان للبورصة الأهمية الكافية لدعم الاستثمارات وتأمين السيولة في الوقت الذي تعجُّ فيه المصارف بالمدَّخرات من دون وجود قنواتٍ استثمارية لها.
¶ أوضاع صعبة
إطلاق العمل الرسمي لسوق دمشق للأوراق المالية أتى في ظروفٍ بالغة الدقة، كما يقول الدكتور أكرم حوراني (خبير اقتصادي) ويضيف: «محلياً، المناخ الاستثماري في سورية يعاني من بعض الصعوبات، والوضع الاقتصادي العام والمؤشرات الاقتصادية العامة فيها تراجع، وزاد من حدَّة هذا التراجع بدايات ظهور انعكاسات للأزمة المالية العالمية، لذلك فالمستثمرون متخوِّفون عموماً، وكل مستثمر في لحظة الترقُّب لا يندفع إلى اتخاذ قرارات استثمارية مهمة».. ورغم أنَّ حوراني يرى أنَّ الظروف الصعبة لم تكن مواتية لإطلاق البورصة، إلا أنَّ البعض يرى أننا كنا مستعجلين على إطلاقها، فيقول الدكتور عيد أبو سكة: «أنا لستُ مِن هواة الركض نحو إنشاء سوق للأوراق المالية، لا سيما أننا في زمنٍ تنهار فيه الأسواق المالية العالمية، ويتَّضح يوماً بعد آخر أنها تمثِّل جبل الجليد الظاهر من الأزمة»..
¶ مطبُّ محتمل
بعض الخبراء رأى في تأخُّر البورصة إنقاذاً للاقتصاد السوري من مطبٍّ كبير، فيقول الدكتور قدري جميل: «يوم افتتاح البورصة قلتُ الحمد لله أنها جاءت متأخِّرة، فتصوَّروا لو أنها أتت قبلاً وبدأت العمل بكامل حجمها، لكانت تحوَّلت أسوةً بغيرها من البورصات العربية إلى ثقب أسود يمتصُّ مدَّخرات ووفورات المواطنين السوريين، فالأسواق العربية خسرت من 25 % إلى 72 % من مجمل قيمتها السوقية خلال عام 2008، فنظام البورصة العالمي منفَّذ على أساس أنه إذا هبطت الأسواق الرئيسية، فهي تدعم نفسها بالأسواق الثانوية، لذلك تأخُّر البورصة السورية أنقذ جانباً مهماً من الاقتصاد السوري».. ويضيف جميل: «نظام البورصة العالمي بعد عام 1995 منفَّذ على أساس تدوير الأموال الفائضة؛ فنسبة 90 % من المداولات في البورصات العاملة هي مضاربات، وليس لها علاقة بالاقتصاد الحقيقي، بينما قبل ذلك التاريخ، كانت المبادلات لها علاقة بالاقتصاد الحقيقي».. ويتساءل جميل: «اليوم، ماذا يعني أن نقول، إنَّ حجم المبادلات في البورصات العالمية اليومي يتراوح بين تريليون ونصف إلى تريليوني دولار، بينما حجم الناتج العالمي لا يتجاوز 60 تريليوناً سنوياً، فهناك تداول غير حقيقي، أي أنه بيع وشراء من أجل الربح، وليس له علاقة بعملية الإنتاج، فهناك عطل من حيث المبدأ عالمياً في البورصة»..
أبو سكة، يشير إلى نقطةٍ أخرى تتعلَّق بتأمين السيولة للاستثمار، والتي إحدى قنواتها هي بورصة دمشق، فيقول: «إذا كنا لا نستطيع أن نعوِّل على المصارف في أن تقوم بدور استثماري، فهي لم تفتح قنوات للاستثمار.. ربما بدأ بعض التحرُّك الخجول، فالسياسات المصرفية بعيدة عن قدرتها على إيجاد استراتيجية استثمارية، فلن يكون هناك دور كبير لسوق الأوراق المالية في هذا المجال»... ويضيف: «الأداء ضعيف، وربما يكون هناك بعض التحسُّن على المدى المتوسط أو البعيد، ولكن الشرط الأساسي هو أن يتحسَّن كمَّاً ونوعاً».. ويضيف أبو سكة: «من الضروري أن يتمَّ التوجُّه نحو الاقتصاد الحقيقي».. وحوراني يتَّفق مع أبو سكة، فيقول: «هدف السوق جمع المدخرات وتقديمها للمستثمرين، ولكن إذا كان لدى المستثمرين أموال كافية أو يجدون أموالاً في المصارف، فالسوق الآن في هذه المرحلة لن تؤدِّي دورها المطلوب، ولكننا بحاجةٍ إلى وقت، ويمكن أن يُلعب هذا الدور في المستقبل».. وبين رأيي حوراني وأبو سكة هناك رأيٌ للدكتور قدري جميل، الذي تساءل: «لماذا لا تضع المصارف السورية أموالها في الاستثمار؟.. والمواطن نفسه، لماذا لا يستثمر مدَّخراته؟.. المشكلة هي في عدم دعم قطاعات الإنتاج الحقيقية كالصناعة والزراعة»..
¶ دور سلبي
يشير حوراني إلى أنه من المبكِّر الحكم الآن على مستقبل البورصة، فيقول: «السوق وليدة، وبحاجة إلى فترة طويلة نسبياً حتى تقلع بشكل جيد؛ فحجم التعامل ضعيف ومازال بمئات الآلاف أو ببعض الملايين، مع العلم بأنَّ رقم أعمال الشركات المدرجة وصل إلى حوالي 15 مليار ليرة، ومع ذلك نأمل في أن يتزايد هذا الرقم في المستقبل، ورغم أنه مرتبط بالظروف الاقتصادية العامة، والتي أساسها شبح الركود»...
أداء متوقع
لعلَّ الاقتصاديين في غالبيتهم يبدون بعض التشاؤم، فيقول أبو سكة: «كان من المتوقع أن يكون الأداء ضعيفاً في الأشهر الأولى، نتيجة قلة عدد الشركات المدرجة؛ فالشركات العائلية ترفض التحوُّل إلى شركات مساهمة لأسباب عديدة، أهمها الأسباب التشريعية المتمثلة في القانون رقم 61 الذي لم يكن مكتملاً، وبحاجة إلى إعادة نظر»...
وإلى نفس القانون، يشير حوراني، فيقول: «يقضي القانون بتحويل الشركات العائلية إلى شركات مساهمة، وحتى الآن لم تتحوَّل أيُّ شركة بسبب بعض المشاكل الفنية والمشاكل المالية التي أزيل بعضها مؤخراً؛ حيث تمَّ الاعتراف وقبول تقدير شهرة المحل في إعادة تقييم الأصول، ولكن مازال هناك بعض المراحل الفنية التي تعيق عملية الانتقال، مثل ضرورة مرور سنتين على آخر موازنات مصدَّقة وفق إعادة تقييم الأصول الجديد.. ولذلك، فإنَّ حجم الشركات المدرجة في سوق دمشق للأوراق المالية ضعيف جداً، يُعدُّ على أصابع اليد، والمناخ الاستثماري العام غير مشجِّع.. في السوق، هناك طلبات للشراء، ولا توجد عروض للبيع.. هذا يعني- على طريقة صغار المستثمرين- أنَّ كلَّ مستثمر يفضِّل البقاء على وضعه الحالي، فاليوم الظرف غير ملائم للانتقال من سهم شركة ما إلى سهم شركة أخرى، في حين تعجُّ المصارف بالموجودات التي لا تلقى قنوات للتوظيف، ورغم أنَّ سعر الفائدة منخفض، ومع ذلك لم يُلاحظ أنَّ هناك تحوُّلا كبيراً في سحوبات المصارف، والسبب هو عدم وجود قنوات استثمارية ملائمة كان يمكن أن تستقطبها السوق»..
¶ شركات أكثر
السوق يجب أن لا تعمل في الفراغ، ويجب أن يكون هناك شركات للتداول وشركات وساطة وخبراء، وأيضاً نقول، إننا خلال فترة قصيرة لا نستطيع تقييم الوضع بشكل كامل. الدكتور قدري جميل يرى الوجه الآخر للمسألة، فيقول: «المشكلة الأساسية ليست في حجم المبادلات اليومية في البورصة؛ فليست هي التي ستخبرنا إن كانت البورصة تعمل أو لا تعمل.. على العكس، فإنَّ حجم المبادلات اليومية في الأسواق العالمية تريليون ونصف، وهو رقم دلالاته سلبية، فهو 90 % مضاربة، و10 % منه حقيقي، فالرقم لا يعني شيئاً، فالمهم هو حجم المبادلات التي لها علاقة بالاقتصاد الحقيقي، وهذا هو السؤال؟ لا أعتقد أنَّ البورصة السورية تأخذ في الاعتبار هذا العائد، فيجب عليها تفعيل المبادلات في القطاع الحقيقي، أي البورصة في القطاع الحقيقي، والتي لها علاقة بالسهم والربح وعملية التدوير، فالدورة الإنتاجية أكبر بكثير من دورة البيع والشراء للسهم، والمشكلة أنه لا يمكن تطبيق آليات خارج الآليات العالمية، وكلما تأخَّر الانطلاق الحقيقي للبورصة كان ذلك في مصلحة الاقتصاد والمواطن السوري، فالشركات المدرجة ستزيد على ثمانٍِ، ولكن لن تكون بالمئات؛ فالسوق السورية ليس لها حظ في أن تكون فعَّالة، والسبب هو الظروف العالمية»...
¶ وقت قصير
هناك مَن يرى أننا نطلق الحكم قبل إعطاء المدة الكافية لعمل البورصة، فيقول أيهم أسد (خبير اقتصادي): «من الصعب الآن وخلال هذه الفترة الوجيزة من انطلاق البورصة الحديث، تقديم تحليل نهائي عن أداء السوق، أو تقييمها بدقة، فالسوق ناشئة وتعمل في ظروف مرحلة التحوُّل الاقتصادي التي تتَّسم في الأساس بعدم الاستقرار والتقلبات، بالإضافة إلى أنها بدأت العمل والاقتصاد السوري محاط باضطرابات مالية اقتصادية عالمية ستؤثِّر بشكل مؤكَّد في الاقتصاد».. ويضيف أسد: «يمكن الحديث عن الهيكلية الحالية للسوق، حيث تتَّسم هذه الهيكلية بنقطتي ضعف أساسيتين، هما؛ ضعف عمق السوق الناتج أساساً عن قلة عدد الشركات المدرجة والذي ينعكس بدوره بصورة مباشرة على ضعف كفاءة وأداء السوق من حيث تحديد القيم السوقية للأسهم وعدد الصفقات المنفَّذة فيها، أما النقطة الأخرى فتتعلَّق بطبيعة الشركات المدرجة في السوق؛ حيث تهيمن شركات الخدمات بالمطلق على هيكل السوق، وتحديداً المصارف، كما تفتقد السوق في الوقت ذاته الشركات الزراعية أو الصناعية بمختلف تخصُّصاتها، أي أنها ما زالت تفتقد شركات الاقتصاد الحقيقي، وبالتالي فإنَّ الهيكلية الحالية للسوق لا تعبِّر عن حقيقة الاقتصاد خارج السوق»..
ولكن، ضعف ثقافة الأعمال وابتعادها عن التحوُّل إلى شركات مساهمة، وبالتالي الابتعاد عن البورصة، يبقى عائقاً. هذا ما يشير إليه أسد، فيقول: «إنَّ تعميق السوق المالية وتطويرها وتغيير هيكلها الحالي، أمور مرتبطة بشكل أساسي برغبة المزيد من الشركات المساهمة في الانخراط في البورصة، وبرغبة الشركات العائلية والشركات المحدودة المسؤولية في إعادة تقييم أصولها والتحوُّل إلى شركات مساهمة أيضاً وفق نصِّ المرسوم التشريعي 61 عام 2007 الذي سينتهي العمل فيه منتصف العام 2010».. ويتساءل أسد عن السبب الذي يبعد الشركات عن الدخول في سوق دمشق للأوراق المالية، مشيراً إلى أنَّ الواقع الحالي ضعيف، فالرسملة ضعيفة ولا يمكن أن يكون هناك مؤشِّر واضح لواقع الاقتصاد السوري، فالسوق اليوم لا يمكنها أن تعكس الصورة الحقيقية للاقتصاد السوري.
تذبذب مبرر
الصورة التي بدأت تطفو على السطح من خلال جلسات التداول ليست الحكم الوحيد، فتجارب الأسواق المالية العربية في معظمها تسير بنفس الاتجاه.. هذا الرأي الذي عبَّر عنه الدكتور محمد الجليلاتي، الرئيس التنفيذي لسوق دمشق للأوراق المالية، حيث يتساءل: «إذا عدنا إلى أيِّ سوق من أسواق الوطن العربي، فهل سنجد أنَّ جلسات التداول متساوية؟ طبعاً لا.. والدليل على ذلك التقرير السنوي لبورصة عمان المالية لعام 2008، حيث نجد أنَّ كلَّ يوم يختلف عن اليوم الذي سبقه، فحجم التداول يختلف بين عام وعام، حيث سجَّل التداول عام 2004 نحو 3 ملايين دينار، بينما كان عام 2005 نحو 16 مليون دينار، ثم انخفض عام 2006 إلى نحو 14 مليون دينار، وفي 2007 انخفض أيضاً إلى 12 مليون دينار، وفي عام 2008 سجَّل نحو 20 مليون دينار، فالمعدَّل اليومي للتداول هو 15 مليون دينار، والسنة التي بعدها 69 مليون دينار، هذا متوسط التداول خلال السنة.. لكن، لو كان متساوياً على مدار الأيام لكان أعطانا أرقاماً متساوية، وبهذا نجد تذبذباً كبيراً في قيم التداول، فأحجام التداول تتوقَّف على وجود عدد من المشترين الذين يرغبون في الشراء وعدد البائعين الذين يرغبون في بيع أسهمهم في الشركات المدرجة».. ويعلِّق الجليلاتي: «من سمات سوق الأوراق المالية، وجود التذبذب؛ فحجم التداول في الأسواق المستقرَّة التي مضى عليها 30 عاماً أو أكثر، يشهد تذبذباً في التداول وتغييراً في أحجام التغيير وفق طبيعة السوق، يعني أنَّ تخفيض معدل الفائدة بنصف في المئة، قد يؤدِّي إلى زيادة أحجام التداول في السوق، ورفع معدلات الفائدة يؤدِّي إلى زيادة معدلات حجم التداول.
ما قبل النشوء
لعلَّ الاقتصاديين في غالبيتهم يبدون بعض التشاؤم، فيقول أبو سكة: «كان من المتوقع أن يكون الأداء ضعيفاً في الأشهر الأولى، نتيجة قلة عدد الشركات المدرجة؛ فالشركات العائلية ترفض التحوُّل إلى شركات مساهمة لأسباب عديدة، أهمها الأسباب التشريعية المتمثلة في القانون رقم 61 الذي لم يكن مكتملاً، وبحاجة إلى إعادة نظر»...
وإلى نفس القانون، يشير حوراني، فيقول: «يقضي القانون بتحويل الشركات العائلية إلى شركات مساهمة، وحتى الآن لم تتحوَّل أيُّ شركة بسبب بعض المشاكل الفنية والمشاكل المالية التي أزيل بعضها مؤخراً؛ حيث تمَّ الاعتراف وقبول تقدير شهرة المحل في إعادة تقييم الأصول، ولكن مازال هناك بعض المراحل الفنية التي تعيق عملية الانتقال، مثل ضرورة مرور سنتين على آخر موازنات مصدَّقة وفق إعادة تقييم الأصول الجديد.. ولذلك، فإنَّ حجم الشركات المدرجة في سوق دمشق للأوراق المالية ضعيف جداً، يُعدُّ على أصابع اليد، والمناخ الاستثماري العام غير مشجِّع.. في السوق، هناك طلبات للشراء، ولا توجد عروض للبيع.. هذا يعني- على طريقة صغار المستثمرين- أنَّ كلَّ مستثمر يفضِّل البقاء على وضعه الحالي، فاليوم الظرف غير ملائم للانتقال من سهم شركة ما إلى سهم شركة أخرى، في حين تعجُّ المصارف بالموجودات التي لا تلقى قنوات للتوظيف، ورغم أنَّ سعر الفائدة منخفض، ومع ذلك لم يُلاحظ أنَّ هناك تحوُّلا كبيراً في سحوبات المصارف، والسبب هو عدم وجود قنوات استثمارية ملائمة كان يمكن أن تستقطبها السوق»..