لا يوجد إحصائيات عن عدد العائلات التي تأكل العسل في سوريا، خاصة ان الأنواع متوسطة الجودة منه لا يقل سعر الكيلو عن 800 ل.س.
أخر مرة أكلت بها العسل تعود إلى أيام طفولتي عندما "كمشني" أخي وأنا اسرق لحسه من "قطرميز" جدي الذي كان يأخذه للعلاج من مرض غاض لم يقولوا لي ما هو.
منذ أشهر رأيت جمهرة من الناس المتحلقين في احد الشوارع دمشق، دفعني الفضول لأعرف ماذا يجري، حشرت نفسي ماطا رقبتي بأقصى ما استطيع كي أرى، وإذا بـ"صاحبي" بائع العسل يمسك بإحدى يديه "قطرميز" سعة كيلو، يغرز سبابة يده الأخرى فيه ويمط الخيط الرفيع للعسل عاليا.. عاليا فلا ينقطع..!
يتشجع احدهم فيشتري مرطبان سعة كيلو بسعر 100 ل.س، يلوح البائع بالمئة ليرة كدليل على الرخص ثم يدسها بجيبه ليتابع تجاربه الحية، يأتي بورقة من السلوفان ويضع فوقها قليلا من العسل ثم يخرج "قداحتة" ويشعل تحتها فيغلي العسل دون ان يحترق، يقرّب فوهة "المرطبان" طالباً من الزبائن الفاغرين أفواههم ان يشموا رائحته الزكية، لا بل يحثهم ان يتذوقوا بأطراف أصابعهم، فيكسب المزيد من الزبائن، بينما يسأل احدهم(بذكاء) وهو يقلب العبوة بين يديه محاولا ان يقرأ اللصاقة : شغل وين هالعسل..؟
فيرد البائع دون ان يلتفت إليه: تركي عيني.. وفيه مصري وفيه يمني..وفيه بالمكسرات وفيه بدون مكسرات..
يتابع السائل المتشكك: ولماذا هو رخيص...؟
ينظر البائع حوله ومن فوق رؤوس المتحلقين كمن يريد يفضي بسر ثم يخفض رأسه ويهمس: مساعدات عراقية...
تتسع عيون المتحلقين مدهوشين بالجملة (السر)، ويهز الرجل الذكي برأسه ويسرح بعينيه بعيداً متخيلا كيف سرقت المساعدات العراقية التي تقدمها الامم المتحدة مجانا، وكيف وصلت إلى يد البائع بطريقة ما ليبيعها على أرصفة دمشق دون ان يعرف قيمتها الحقيقية..
فيهز رأسه مرة ثانية مقتنعا بعبقرية تحليلاته، ويشتري 3 عبوات، يأخذها ويمضي مسرعا بصيده الثمين، قبل ان يحدث طارئ.
خلافا للرجل الذكي فذهبت تحليلاتي باتجاه اخر.. اشتريت كيلو عسل (مختوم) وانا كلي اعتقاد بأنه ليس مغشوش فقط، بل يحتوي على مواد ضارة، فشكل العبوة الزجاجية الأنيق واللصاقة والاصبغة و السكر المقطر والمكسرات وتحضير الطبخة، كل هذا مقارنة بسعرها الرخيص 100 ل.س، امر يدعو إلى الشك فعلا...!
بالطبع تحليلاتي هذه ليست مبنية على ذكائي الخارق، بل سبق ووقع احد اصدقائي ضحية كيلو العسل ابو المئة ليرة منذ سنوات بعيده.
بدلاً من توجهي للمنزل توجهت إلى جمعية (حماية المستهلك)، علّني استطيع تحليل المادة، قابلت الموظفة المسؤولة واتصلت بدورها برئيس الجمعية وتحدثت معه على الهاتف ولم استطع إقناعهما بتحليل المادة، كان الجواب ان الجمعية تقبل فقط شكوى على محلات ثابتة لها عناوين معروفة، وليس على بائع يقف على الرصيف..! ونصحاني بالتوجه إلى وزارة الاقتصاد.
حملت كيلو العسل وتوجهت به إلى وزارة الاقتصاد، والى القسم الذي يحمل نفس اسم الجمعية السابقة لكن نحن هنا أمام (مديرية حماية المستهلك)، المسؤولين كان رأيهما بان الأمور واضحة فالعسل مغشوش، وبصعوبة استطعت اقتناعهما انه ربما يحوي مواد ضارة، بل ربما خطرة..!
بالمحصلة قدما لي نصيحة(وكأن القضية قضيتي الشخصية) بان اذهب الى مدير الشؤون الفنية(في الطابق الأرضي) وأقنعه بان يرسل العبوة إلى المخبر، وفعلا بعد اخذ ورد مع مدير الشؤون الفنية اقتنع، لكنه طالب مني(كي يعفيني من أجرة التحليل) بان أقدم طلب بوصفي صحفي ليرفقه مع العبوة إلى مخبر الوزارة.
وبما ان تحليل العبوه (سلمتها مختومة حرصا على عدم تلوثها قبل التحليل) يستغرق وقتا لإرسالها إلى مخبر الوزارة والعودة بها، تواعدت مع المدير بناءاً على طلبه بان أعود بعد خمسة أيام على الأقل لآخذ نتيجة التحليل.
لم اكذب خبراً، بعد خمسة أيام بالضبط كنت أمام مدير الشؤون الفنية بوزارة الاقتصاد، منتظرا ان اخذ النتيجة لأكتب ريبورتاج صحفي مرفقاً بوثيقة تثبت ماهية هذا المركب العجيب الذي يشتريه على الغالب ناس فقراء، أشار المدير بيده طالباً مني الجلوس ريثما يفرغ من أوراق مهمة بين يديه.
رفع السماعة متصلا بمدير المخبر وسأله عن سبب التأخر بإرسال نتيجة تحليل عبوة العسل..ثم ما لبثت ان تغيرت ملامح وجهه وعلا صوته، وكان واضحا من كلامه بأنه لا وجود لنتيجة، ولا وجود لعبوة عسل..!
وضع السماعة محتارا ماذا يفعل، ثم طلب المراسل الذي يفترض انه اخذ كيلو العسل إلى المخبر، لكن تبين ان المراسل في إجازة ...
طلب من إحدى الموظفات الاتصال به في بيته، ففعلت وردت زوجة المراسل التي أخبرته عن طريق الموظفة بأنه مريض ونائم، فطلب إيقاظه.. وجرت المكالمة التالية بين المدير والمراسل:
المدير: لك "محمد" وين كيلو العسل...
المراسل: ....
المدير: لك كنت ..لك مو عيب عليك..لك أنت...
المراسل: ....
المدير: ليك بكره (يبعد السماعة ليسألني) وين عم يوقف بياع العسل..؟ بعد إجابتي يعود لمخاطبة المراسل: ..بكره الصبح ما بتجي على الدوام قبل ما تجيبو معك...
المراسل:....
المدير: ما بعرف دبر حالك.. بتنزل على شارع الثورة وإذا ما لقيته هناك بتروح على البرامكه..
المراسل:...
المدير:نفس الماركة..بتدبر حالك بكره بدك تخلق كيلو العسل خلقه ..فاهم وإلا ما تفرجيني خلقتك...انتهى..ويقفل الخط منهياً المكالمة بعصبية.